حدث في مثل هذا اليوم من سنة 1952 بطنجة

هيئة التحرير30 مارس 2021آخر تحديث :
حدث في مثل هذا اليوم من سنة 1952 بطنجة

سعيد عدي. باحث في تاريخ المغرب المعاصر.

عندما اشتد التضييق على العمل الوطني صُحفا وأحزابا ونقابات ومؤسسات دينية داخل طنجة؛ بدأت موجة عنف تجتاح المدينة بالتصاعد خصوصا في ذكرى بعض الانتكاسات الوطنية، ودأبت مدينة طنجة على تخليد ذكرى توقيع عقد الحماية على المغرب (معاهدة فاس في 30 مارس 1912م) بإغلاق المحلات التجارية، وصيام يوم 30 مارس من كل سنة. يُرجع من عاشوا هذه الأحداث أسبابَها إلى معاملة السلطات للأهالي بالقهر والإذلال والاستعباد، وكان يوم 30 مارس من كل سنة مناسبة يعبر فيها المغاربة عن غضبهم واستيائهم من عقد الحماية.

تزامنت الذكرى الأربعون لتوقيع الحماية مع يوم انعقاد السوق الأسبوعي بالمدينة التي عرفت توافد الفلاحين والتجار والعمال والصناع والموظفين على اختلاف أديانهم وجنسياتهم بالإضافة لكونه يوم عطلة الأحد الأسبوعية. لذلك كان الكل يجتمع في السوق البراني، وفي ذلك اليوم بدأت شرارة الاضطرابات على الساعة الواحدة زوالا، وسرعان ما تطورت كغيرها من الأحداث، بدأت باعتقال شخص بطريقة ساهمت بدورها في تأجيج الأوضاع، وتم اعتقال بعض الشبان والقاصرين، فتجمهر الناس من كل المشارب استنكارا للأمر، واستعملت الشرطة العنف لتفريق المحتجين مما أدى لأعمال عنف صاحبها تخريب للممتلكات وخسائر في الأرواح، وُضعت جثت سبعة منهم في المستوصف البلدي وخمسة في الصليب الأحمر الاسباني وثلاثة في المستشفى الاسباني واثنان في المستشفى الفرنسي وواحد في المستشفى الإيطالي في حين تم دفن سبعة آخرين لقوا مصرعهم في الحين، في ما بقي عدد آخر من القتلى ملقى على الطرقات بسبب خوف السكان من رصاص الشرطة، وهكذا لم يتم التأكد من العدد الإجمالي للقتلى، أما الجرحى فقد عولج 76 منهم في الصليب الأحمر الاسباني من بينهم 15 شرطيا و5 جرحى في مستشفى بن شيمون و35 جريحا في المستوصف البلدي و5 جرحى في المستشفى الانجليزي، فيما تم اقتياد 35 جريحا إلى السجن وفر آخرون، لذلك استحق يوم 30 مارس 1952م لقب يوم الأحد الأسود في تاريخ طنجة.

إثر هذه الأحداث وجه المندوب السلطاني بطنجة نداء إلى سكانها بالتزام الهدوء ولزوم السكينة حاثا إياهم على تجنب الفتن لما تجلبه من أضرار مادية ومعنوية حرصا على ازدهار المدينة ونشاط حركتها التجارية العائدة بالنفع على كل الشرائح.

أما إدارة الأمن فإنها اضطرت لتوضيح دواعي تدخلها وهي حماية المراكز التجارية التي هُوجمت يوم 30 مارس 1952م مؤكدة أن عناصر الشرطة تعرضت لهجوم بالحجارة والزجاجات الفارغة؛ مما أرغمها على استعمال الأسلحة لتفريق المتظاهرين الذين فروا نحو الحي الأوروبي وبدأوا بتخريب الممتلكات والهجوم على السيارات وتحطيم واجهات المراكز التجارية، وأبدت الإدارة أسفها لمصرع أربعة أشخاص وإصابة 27 متظاهرا بجروح من بينهم رجال الشرطة، وتفاعل محمد الخامس مع الأحداث باستنكاره إلقاء القبض على متظاهرين وجلهم من مغاربة غرباء عن المنطقة، فيما صرح السكان بضلوع بعض السكان الأوروبيين واليهود في الأحداث بإطلاقهم النار من نوافذ منازلهم على المتظاهرين ، وفي المساء عاد الهدوء إلى المدينة، وتم تشييع جثامين ضحايا أحداث طنجة الدامية في موكب جنائزي مهيب اجتمع فيه ما ينيف عن أربعين ألف من المغاربة.

نقل وفد مؤلف من أزيد من خمسين عضوا احتجاج سكان طنجة إلى مندوب السلطان، طالبين أن يرفعه إلى الملك مصحوبا بالتعازي في وفاة الأبرياء مستنكرين الاستفزازات التي صدرت عن بعض عناصر الشرطة وكانت سببا في اندلاع الأحداث. ضم الوفد الفقيه العربي التمسماني وعبد الله كنون وعدد من وجهاء المدينة منهم عبد السلام الوزاني والمختار أحرضان ومحمد اقلعي وسعيد العمراني ومحمد الخمال والمهدي الزبدي ومحمد الزبدي ومحمد بلمكي بناني وعبد الغني جسوس وعبد الرحمن برناط وعبد الكريم بنجيلالي ولحسن قصارة ولحسن قباج ومحمد امقشد وعبد السلام الفتوح، وغادر الوفد مقر المندوبية الشريفة بعدما طلب من المندوب إبلاغ احتجاجهم إلى السلطان وإلى إدارة النظام الدولي على أن يمكن الوفد المندوب من عريضة رسمية وموقعة من طرف السكان.

نتج عن أحداث طنجة الدامية الكثير من الخسائر البشرية والمادية، ودعت الغرفة المغربية للتجارة والصناعة والفلاحة التجار المغاربة الذين تضرروا من الأحداث إلى الاتصال بالغرفة وإعلامها بقيمة الخسائر، لكن الأضرار لم يتم جبرها نسبيا إلا بعد تكثيف الجهود بين المحسنين في مدينة طنجة؛ حيث تشكلت لجنة لإسعاف المنكوبين في حوادث الثلاثين من مارس، وقد جمعت هذه اللجنة بعد فتحها لللإكتتاب مبلغا ماليا قدر بـ 10091845 بسيطة، وحدد عدد المنكوبين في 60 شخصا بين قتلى وجرحى، وتقرر جبر ضرر القتيل بـ 1500 بسيطة والجريح بألف بسيطة، فيما خصص مبلغ آخر بلغ %20 من مجموع مدخول الاكتتاب لمساعدة الأسر العاجزة جراء حبس معيليها.

راسل مدير المنطقة الأمنية لطنجة بعض الجرائد المحلية موضحا إصداره أوامر بإيقاف المسؤولين عن الحادث وتقديمهم للعدالة، لكن تصريحه لقي انتقادا شديدا؛ لأن جل الذين ألقي القبض عليهم وتقديمهم للعدالة دون سن 18 يعتبرون في جل التشريعات القانونية الدولية قاصرين، مكانهم الطبيعي هو الإصلاحية وليس السجن، وأن زعم الشرطة مردود عليه. من جملة الأدلة المقدمة في هذا الصدد غياب تناسب بين الهجوم والدفاع؛ حيث إن الهجوم بالحجارة لم يكن يستوجب الدفاع بالسلاح الرشاش”Mitrailleuse”، ومما يؤكد أن الحادث مفتعل؛ استعمال الشرطة للمسدسات في وقت وجيز وكأنها تستهدف أشخاصا بعينهم، ولقي هؤلاء حتفهم في الحين جراء طلقات الرشاش. يضاف إلى ذلك أن الشرطة لا يمكن أن تنسى مهمتها الوقائية البحتة في تفريق المحتجين، ولا يقبل انخراط رجال الشرطة في الأحداث بذلك الشكل أبدا، وجاء ضمن الأدلة القائلة باصطناع الأحداث؛ أن ما دعا أكثر إلى القلق والارتياب، إرسال الشرطة الدولية صبيحة يوم الأحد 30 مارس 1952م تجريدة خاصة لحماية المفوضية الفرنسية دون غيرها من المفوضيات، ثم إنه قبل يوم الأحد تم تجريد بعض رجال الشرطة من أصل مغربي من سلاحهم، كما أن الأشخاص الذين كانوا أكثر تحمسا لإذكاء شرارة الأحداث وعددهم حوالي 60 فردا لم يصابوا بأذى، في المقابل ظهرت عليهم علامات الاغتناء بعد الأحداث. قُدمت هذه الاعتراضات المنشورة في الصحف إلى لجنة التحقيق في حوادث 30 مارس التي نصبها المجلس التشريعي الدولي بالإضافة إلى بعض الملاحظات والاستفسارات، منها غياب المتهم الأول الذي ألقي عليه القبض، وهو الذي كان سببا في اندلاع الشرارة الأولى للمظاهرة، دون أن يُقدم للمحاكمة! وعلقت الصحف الوطنية بأنه إذا كان يستحق العفو فإن محاكمة المتهمين الآخرين باطلة، ثم إن كل المصابين بالرصاص في الحوادث أصيبوا من الخلف؛ مما يدل على أنهم كانوا في حالة فرار، وأنهم لم يملكوا أي سلاح ناري، إضافة إلى أن أفراد الشرطة سلموا جميعهم من الرصاص، ما يدل على أن الاعتداء كان موجها بإيعاز من طرف واحد.

مَثُل المتهمون في أحداث 30 مارس أمام المحمكة المختلطة في طنجة على دفعتين، وواجهتهم هيئة المحكمة بالمنسوب إليهم كالسرقة وتكسير واجهات المتاجر وضرب رجال البوليس وإتلاف السيارات، والثورة على النظام القائم والدعوة إليها، وعرقلة حرية الشغل والسب والتهديد واستعمال العنف وحمل السلاح الأبيض بدون إذن، وسجلت أطوار المحاكمة حضور أصحاب المحلات المتضررة خارج أسوار المحكمة لسرد الوقائع جراء ما لحقهم. ولم يقوموا بتنصيب محام للدفاع عنهم، إنما تطوع أفراد من هيئة المحامين للدفاع عن المتهمين في طليعتهم؛ ادريس بنكيران والخراط و”لاكلا” و”سطرا”، وبالرغم من الأدلة المقدمة أثناء مؤازرة المتهمين فقد أصدرت المحكمة الأحكام التالية في حق بعضهم:

– ادريس بن محمد المراكشي: السجن 10 أشهر.

– محمد بن عزوز بن دادى: السجن سنة كاملة.

– محمد بن عمر بن التهامي: السجن ثلاثة أشهر.

– عبد السلام بن محمد الزموري: السجن 8 أشهر.

– عمر بن ميلود بن قاسم: السجن شهران.

– شعيب بن حمو لمرابط: السجن 8 أشهر.

– منانة بنت عبد السلام الهاشمي: السجن 15 يوما.

– فاطمة بنت محمد بن المختار: السجن 20 يوما.

– عبد الرحمن بن محمد الصنهاجي: السجن 3 أشهر.

– عائشة بنت العربي الشركي: السجن 10 أيام.

– ميمون بن محمد بن عيسى: البراءة.

– محمد بن التهامي الحداد: السجن 3 أشهر.

– المفضل بن محمد العمراني: السجن 3 أشهر.

– سلام بن محمد بن محمد: السجن 7 أشهر.

– أحمد بن دادى بن الحاج سلام: السجن 7 أشهر.

– فاطمة بنت دادى بن الحاج سلام: السجن 5 أيام.

– عبد القادر بن قاسم السوسي: السجن 15 يوما.

– عبد الله بن الحاج عمر: الحكم غيابيا بالسجن سنة كاملة.

خلفت الأحكام القاسية التي أصدرتها المحكمة في حق المتظاهرين ردود فعل متفاوتة لدى المتتبعين، ومن أجل تلافي الاحتقان الشعبي قررت لجنة المراقبة الدولية في جلستها المنعقدة يوم 8 أبريل تخصيص اعتماد مالي لضحايا الثلاثين من مارس من المغاربة وقررت فتح تحقيق حول مصدر الحوادث وتطورها كلفت به الملحقين العسكريين لمفوضيات وقنصليات الدول الممثلة في طنجة. بهذين القرارين ظنت لجنة المراقبة الدولية أنها قد استجابت لرغبة شعبية مغربية عبرت عنها مختلف الصحف والجرائد المحلية، ووفود أعيان المدينة، وممثلوا الجمعيات والأحزاب الوطنية.

احتج ممثلوا هيآت جمعوية وحزبية مختلفة على مستوى الداخل والخارج، واستنكر حزب الشورى والاستقلال تدخل الشرطة بأسلحتها النارية، وشجب بقوة سكوت المندوب المخزني الذي اكتفى بنداء دعا فيه إلى الهدوء بعدما انتهت عمليات القمع الدامية، ووعبر محمد حسن الوزاني عن احتجاجه في رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة قائلا: “لم يكن 30 من مارس 1952م يوم حداد للشعب المغربي فحسب، ولكنه كان كذلك يوما ميزته الحوادث الدامية التي ظلت طنجة مسرحا لها، على إثر الاستفزازات والعمليات القمعية التي مارستها الشرطة والتي أسفرت عن ما يزيد عن 50 قتيلا لم يستطع ذووهم أن يجدوا جثثهم، وعما يفوق 200 جريح، كل هؤلاء الضحايا وقعوا في صفوف السكان المغاربة الذين تعرضوا لطلقات نارية بواسطة المسدسات أو الرشاشات، ويوجد بين الضحايا نساء وأطفال وشيوخ. بعد هذه المذبحة الشنيعة التي شهدتها طنجة قامت الشرطة الدولية بحملة اعتقالات تعسفية بين المغاربة، فألقت القبض على أكثر من 120 مواطنا ومواطنة وقدمتهم إلى المحكمة المختلطة بطنجة التي أصدرت بدورها أحكاما جائرة أثارت غضب السكان الذين أدو الثمن باهظا بسبب عمليات القمع التي مارستها الشرطة، واختتمتها بمحاكمة صورية هازئة متلاعبة بالعدل، في جو تميز بانتشار فيالق الشرطة عبر شوارع المدينة وأزقتها يوم 30 مارس، حيث مضت تلقي القبض على من شاءت، فامتدت أياديها القمعية إلى دماء المواطنين الأبرياء سواء كانوا يومئذ في منازلهم أو خارجها. أصدرت غرفة الاستئناف يوم 16 ماي 1952م بمحكمة طنجة أحكاما قاسية في حق المواطنين المغاربة المتهمين في أحداث 30 مارس، وقد استنكرها في قاعة الجلسة نفسها كافة المتهمين والعديد من الحركات التي حضر ممثلون عنها مهزلة المحاكمة وهم يصيحون في وجه الظلم بينما كان آخرون غيرهم يتلون “اللطيف” إن هذه الأحكام ليست سوى أحكام ذات صبغة عنصرية وانتقامية، ومن جهة أخرى فإن الشرطة الدولية المرابطة بطنجة والمسؤولة عن الأحداث الدامية التي شهدها يوم 30 مارس 1952م تعززت بفرق الفرسان التابعة للقوات الاسبانية والقوات المصفحة الفرنسية وهكذا فإن مدينة طنجة الهادئة أخذت تتحول تدريجيا إلى معسكر للقوات المسلحة المرابطة.

أرخت أحداث طنجة الدامية بظلالها على مهام رجال الحركة الوطنية حتى عقب سنة 1951م، وربط علال الفاسي صعوبة إحدى مهامه الحزبية الرسمية بفرنسا قائلا: “والحق أن مهمتي كانت صعبة جدا لأن الجو كان أشد ما يتصور من التوتر، ولأن الفرنسيين خاصة الرسميين منهم لم يهضموا حوادث طنجة، ولم يستطيعوا التصبر إزاء موجة الوعي القومي التي غمرت البلاد، لاسيما وقد ملأت نفوسهم دعايات مغرضة كانت تتهم المغاربة بالميل للأمريكيين والاعتماد عليهم، وغاية الاعتذار التي كُلفت بها لا تقتضي استعمال الشدة أو التلويح بأقل تهديد، ولذلك فالمسألة كانت تقتضي بأن تعالج بالطرق التي تتفق والنفسية الفرنسية وتمكنني من أداء مهمتي على الوجه الذي يرضي ضميري.

لاحت الأحداث الدامية بتاثيرها على نفوس السكان خلال الاحتفالات الوطنية بعد ذلك. فقد دأب سكان طنجة على تخليد ذكرى زيارة السلطان محمد بن يوسف للمدينة في التاسع من أبريل، حيث تُنَظمُ الحفلات واللقاءات وتوزع الصدقات على المعوزين وترفع الأعلام على واجهات الدور والمنازل، لكن ذكرى الأحداث الدامية ل 30 من مارس لم تترك مجالا للاحتفال، وتم الاكتفاء برفع الأعلام الوطنية على الدور والمنازل مع مزاولة المغاربة لأعمالهم اليومية دون إقفال المتاجر أو تعطيل العمل خلال يوم 9 أبريل 1952م.

تقرر نفي محمد الخامس ونجليه يوم 20 غشت 1953م. أمام تنامي ضغط الحركة الوطنية وتقوي شوكتها، فكثف رجال الحركة الوطنية اتصالاتهم ورصوا صفوفهم وخططوا للرد الذي كان في مستوى الحدث (جريمة النفي). وتعد الفترة الممتدة بين سنتي 1953م و1954م فترة حرجة لانطلاق العمل المسلح، حيث نشطت الأعمال الفدائية وانتشرت الأسلحة لاسيما منها المسدسات والقنابل. كما عمل النشطاء الوطنيون في طنجة على توطيد علاقاتهم بنظرائهم في المنطقتين الخليفية والسلطانية وتزويدهم بالأسلحة وكافة أشكال الدعم. وأسفر الضغطان؛ الوطني والدولي، عن عودة محمد الخامس من منفاه إلى عرشه وتنحية ابن عرفة.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة