الصحافة… حين تفقد الحقيقة أوراقها ؟

هيئة التحرير12 أغسطس 2025آخر تحديث :
الصحافة… حين تفقد الحقيقة أوراقها ؟

بقلم : محمد الصغير

إذا لم تحمل الأقوال على وثائق، فالكلام يصبح نسمة في الريح.

في عالم الصحافة الاستقصائية، الدليل ليس مجرد رفيق للخبر، بل هو قلبه النابض ودرعه الواقي. الصحفي الذي يسرد أسماء واتهامات بلا سند ورقي أو برهان ملموس، كمن يرمي حجراً في الظلام، لا يدري أين سيصيب، ولا كم سيكسر. فولتير كان يقول: “التشهير سهل، لكن إثباته أصعب من نحت الصخر”، وهذه ليست مبالغة؛ لأن الحقيقة وحدها لا تكفي، بل يجب أن تُثبت وتُوثّق حتى تصبح عصيّة على الهدم.

إدوارد مورو، أيقونة الصحافة الأمريكية، لخص المعادلة بقوله: “أي خبر بلا دليل هو محض رأي”. والرأي، مهما بدا مقنعاً، لا يرقى لأن يُباع كحقيقة. الصحافة الاستقصائية هي فن ترتيب الفوضى: جمع الوثائق الرسمية، مطابقة السجلات، تدقيق الشهادات، وتحليل البيانات حتى تخرج القصة صلبة كالحجر. ما عدا ذلك، هو مجرد كلام عابر يطير في أول ريح من التشكيك أو النفي.

لكن المشهد الإعلامي اليوم لم يعد بريئاً. التحول الرقمي فتح الأبواب أمام ثروة من المعلومات، لكنه أطلق معها جيشاً من الأوهام. كما قال جورج أورويل: “كلما كانت الكذبة أقرب إلى التصديق، زاد خطرها”. صور مفبركة، تسجيلات معدلة، مستندات مختلقة… كلها تتسلل إلى الفضاء العام، وتحتاج لعين فاحصة وخبرة تقنية لتفكيكها قبل أن تتحول إلى “حقائق” مزيفة. هنا، تصبح الأدوات الحديثة — من تحليل بيانات الـmetadata إلى التحقق العكسي للصور — خط الدفاع الأول للصحفي الجاد.

وليس الامتناع عن كشف الأسماء دوماً علامة ضعف، بل قد يكون واجباً أخلاقياً. حماية الشهود، حفظ سلامة أشخاص، أو احترام سرية قانونية… كلها مبررات مشروعة. المهم أن يظل الدليل كاملاً بين يدي الصحفي، جاهزاً للعرض حين تقتضي المصلحة العامة.

نيلسون مانديلا كان يرى أن: “الصراحة مع الشعب لا تعني قول كل شيء، بل ألا تقول إلا الصدق”. وهذه الجملة تصلح دستوراً لكل صحفي يحترم مهنته وجمهوره. الصدق ليس اندفاعاً، بل انضباط، وليس ثرثرة، بل اختيار واعٍ لما يمكن إثباته.

المصداقية، كما يقال، تُبنى في أعوام وتهدم في دقائق. والقارئ الذكي لا يريد منك سرعة السبق بقدر ما يريد صلابة البرهان. الصحفي الذي يمسك ملفه الموثق، يمسك معه مفاتيح التأثير والاحترام، ويمنح نفسه الحق في طرح السؤال الأهم: من كان بلا دليل، فبأي حق يروي القصة؟

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة