المغرب وروسيا.. قراءة في التحول الدبلوماسي ومآلات التوازن الإقليمي

هيئة التحرير19 أكتوبر 2025آخر تحديث :
المغرب وروسيا.. قراءة في التحول الدبلوماسي ومآلات التوازن الإقليمي

بقلم: الصغير محمد – جريدة الساحل بريس

في السياسة، لا تُبنى التحالفات على العواطف، بل على إدراك دقيق لتوازنات القوة وموازين المصالح. والمغرب، في تحركاته الأخيرة نحو موسكو، يُعيد تعريف معادلة الانفتاح الدولي من موقع الفاعل لا المتلقّي، في زمنٍ تتقاطع فيه خرائط العالم أكثر مما تنفصل.
فالتقارب المغربي الروسي، الذي تجسّد في توقيع اتفاقيات نوعية في مجالات الطاقة والصيد البحري، ليس مجرد تبادل للمصالح الاقتصادية، بل هو إعادة تموضع هادئ ضمن لوحة التوازنات الدولية، حيث باتت الرباط تتعامل مع القوى الكبرى كندٍّ يملك أوراقه الخاصة، لا كدولةٍ تبحث عن غطاء.

تتحرك موسكو اليوم وهي تتولى رئاسة مجلس الأمن الدولي، لتُدرك أن الرباط ليست بوابة المتوسط فحسب، بل بوابة النفوذ المتوازن إلى إفريقيا الأطلسية. والمغرب، الذي تمرّس على دبلوماسية “التوازن الهادئ”، يعرف كيف يجعل من التوقيت أداة استراتيجية. فكل إشارة روسية في هذا التوقيت – شهر مناقشة ملف الصحراء المغربية داخل المجلس – تُقرأ بتمعن، ليس فقط في الرباط، بل أيضاً في العواصم التي اعتادت احتكار سردية النزاع.

هنا بالضبط يبرز ما يمكن تسميته بـ”الذكاء الجيوسياسي المغربي”، القائم على مبدأ “تعدد الشراكات واستقلال القرار”، وهو نهج يجعل من المغرب شريكاً يُحسب له حساب في كل معادلة، سواء تعلّق الأمر بالغرب أو بالشرق.
في المقابل، تبدو الجزائر – في حركتها الدبلوماسية الأخيرة نحو أوكرانيا – وكأنها تُعاني من متلازمة فقدان التوازن. فالبلد الذي طالما قدّم نفسه كحليف تقليدي لموسكو، وجد نفسه اليوم في موقع المزايدة ضدها، لا دفاعاً عن أوكرانيا، بل اعتراضاً على الرباط. إنها دبلوماسية ردّ الفعل، حيث يتحول الخصم الجيوسياسي إلى بوصلة، لا إلى منافس نِديّ.

إن استقبال الجزائر للسفير الأوكراني والإعلان عن مشاورات لتأسيس مجلس أعمال مشترك، في توقيت يتزامن مع توسّع التعاون المغربي الروسي، ليس حدثاً اقتصادياً بقدر ما هو رسالة سياسية ذات طابع انفعالي. وكأنّ الجزائر تقول للعالم: “إن لم تكن روسيا معنا ضد المغرب، فسنكون ضدها مع خصمها” — في مفارقة تكشف عن أزمة اتجاه لا أزمة موقع فحسب.

أما الرباط، فتمارس هدوءها المعتاد. لا ردود صاخبة ولا خطابات استفزازية، بل تراكم بطيء للثقة، واستثمار ذكي في المساحات الرمادية للعلاقات الدولية. فهي تدرك أن موقعها في شمال إفريقيا لم يعد مجرد امتداد جغرافي، بل أصبح عقدة استراتيجية بين الأطلسي والساحل والصحراء.
وهكذا، يلتقي البرود الروسي بحكمة مغربية تُدرك أن الجغرافيا لا تختار جيرانها، لكنها تستطيع أن تختار تحالفاتها.

في خلفية هذا المشهد، تلوح ملامح نظام عالمي جديد تتراجع فيه الأحادية القطبية لصالح تعددية براغماتية، تُقدّر من يُحسن التموضع أكثر ممن يرفع الشعارات. والمغرب، في هذا السياق، لا يبحث عن ولاءات، بل عن توازنات، ولا يستبدل محوراً بآخر، بل يخلق لنفسه محوراً ثالثاً: محور العقلانية الواقعية.

من هنا يمكن القول إن التقارب المغربي الروسي ليس انزياحاً شرقياً، بل تصحيحٌ لميلٍ قديم نحو الغرب، وتأكيد على أن السياسة الخارجية المغربية تُبنى على مبدأ: “الولاء للمصلحة الوطنية، لا للمحاور”.

لقد تغيّر العالم، والمغرب يثبت أنه من القلائل الذين قرأوا هذا التغيير في وقته.
أما الآخرون، فما زالوا يقرأون السياسة كبيانٍ أيديولوجي، لا كلعبة أممٍ تُكتب بلغة المصالح.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة