بقلم ذ.احمد العهدي
بادئ ذي بدء ، اود ابداء وجهة نظر ، بهدوء و روح رياضية ، بعيدا عن رد فعل متشنج مندفع يمليه استفزاز اللحظة او عداء دفين راكمته محطات توترات و اصطدامات..
اظن ، في اعتقادي المتواضع ، ان المملكة المغربية ، اليوم ، تعيش نقلة نوعية او نقطة تحول مفصلية ، لانها دخلت منعطفا حاسما في تاريخها المجيد ، يتجسد في كونها ،في عهد جلالة الملك محمد السادس ، اكتسبت صفة الدولة السيادية، التي ستجعلها لن تخضع لاملاءات و لن تتصرف تحت اي ضغط او ابتزاز، و من اي جهة كانت . و هنا ، استحضر الخطاب الملكي التاريخي الذي ألقاه جلالة الملك بمناسبة الذكرى الـتاسعة و الستين لثورة الملك و الشعب ، الذي يؤكد ، في عمقه و جوهره ،ان اي دولة ، كيفما كان نوعها و طبيعتها، لن تصل إلى طموحاتها الاستراتيجية مع المغرب بدون أن تتحلى بالوضوح السياسي اللازم و مغادرتها للمنطقة الرمادية بخصوص قضيتنا المصيرية الجوهرية المتعلقة بمغربية الصحراء، لانها قضية وجود لا حدود ، ما يعني انه لا تقدم في حساب المصالح الجيوسياسية مع المغرب بدون مقابل..لقد ولى زمن الاملاءات و الوصاية و “الاحتضان” ، و حل زمن نهج التصدي للمناورات ، و المعاملة بالمثل ، سواء عبر الديبلوماسية الملكية الناعمة الحكيمة او الحضور الحكومي او الديبلوماسية الموازية التي تتولاها هيات مدنية و منظمات مغربية غير حكومية، يتصدرها خارج ارض الوطن ابناء و بنات الجالية المغربية و اليهود المغاربة، ماجعل التعبئة الوطنية شاملة و اليقظة الشعبية قوية ، و الامة المغربية ملكا و حكومة و شعبا ، في صف متراص تقف وقفة رجل واحد و تؤمن بقلب واحد و تردد بلسان واحد ان قضية الصحراء المغربية هي قضية ان يكون الشعب المغربي او لا يكون، و مقابل ذلك يتم اعتماد مقترح الحكم الذاتي الذي يضمن لابناء و بنات الاقاليم الجنوبية تدبير شؤونهم بانفسهم عبر تمثيليات ديمقراطية و استثمار امثل و افضل لطاقات النخب الشابة التي اصبحت تعج بها ارض الصحراء، منبت و موئل سادة المجد و الكرم ، و ارض الخيرين النيرين الذين رضعوا لبان الشرف و الكبرياء و الشموخ…ان الحكم الذاتي هو الاطار الاصوب و الخيار الانسب لطي ملف نزاع مفتعل طال امده ، كرس تراجيديا اسر بعضها يعيش في امن و امان و يمن و اطمئنان ، و البعض الاخر ، يحز في نفوسنا ، كاخوة و اقارب ، انهم يعانون من المتاجرة بماسيهم..صحيح لن تحلو حياتنا و تصبح سعيدة الا بجمع الشمل ليعيش الجميع تحت سقف وطن واحد.. كفى تشردما و تفرقة و تشظيا..! البلد في حاجة لكل بناته و أبناءه.
ان المغرب ، اليوم ، في دينامية مجهوده التنموي قطع اشواطا هامة على درب الاقلاع الانمائي، و لا يزال طامحا في الارتقاء به. و مغرب اليوم عرف حضورا وازنا في المنتظم الدولي ، الذي استحسن مبادرة الحكم الذاتي و رحب بها لانها مقترح واقعي و ذو جدوائية و مصداقية.. لذلك و من اجل ذلك ، حققت الدبلوماسية الملكية المتبصرة الحازمة انتصارات كبيرة، جعلت اكبر قوة في العالم ، الولايات المتحدة الامريكية تعترف بمغربية الصحراء ، التي كانت و مازالت و ستبقى ، لابد الابدين ، رغم حسد الحاسدين ، و كيد الكائدين ، مغربية الى ان يرث الله الارض و من عليها.
و كما اشار جلالة الملك محمد السادس في الخطاب السامي الذي تفضل بتوجيهه إلى الأمّة في الذكرى التاسعة والستّين لثورة الملك والشعب، فان اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بمغربية الصحراء لا يتغير بتغير الإدارات الأمريكية. كما رحب جلالة الملك باعتراف إسبانيا التي قال إنها تعرف أصل النزاع وحقيقته، بمغربية الصحراء ودعمها لمقترح الحكم الذاتي، مشيرا جلالته إلى أن الموقف الإسباني لا يتأثر بالظروف الإقليمية ولا بالظروف السياسية الداخلية.
و مربط الفرس و بيت القصيد يكمن في كون عاهلنا المفدى الكريم أوضح أن ملف الصحراء المغربية هو “النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات.
لذا، يضيف جلالةالملك، ننتظر من بعض الدول، من شركاء المغرب التقليديين والجدد، التي تتبنى مواقف غير واضحة، بخصوص مغربية الصحراء، أن توضح مواقفها، وتراجع مضمونها بشكل لا يقبل التأويل.”
انه الحزم في ابهى تجلياته ، و العزم في ارقى تمظهراته .. انه باختصار ، انبجاس او ميلاد مغرب الدولة السيادية ؛ تعتمد و تنهج الصرامة المنصفة ، و موقف صائب للكرامة ؛ لان تجارب الدول و العلاقات الدولية، كما بين الافراد في المستوى العلائقي ، ثبتت بما لا يدع مجالا للشك ، انه حين تنحني لاحد ، مهما كان الامر ضروريا، فقد لا تواتيك الفرصة لتنتصب مرة اخرى..حين تنحني صامتا يلبسونك بردعة و يضعون على فمك لجاما؟!! الصداقة الحقيقية تصنعها المواقف و ليس الكلام المعسول و الشعارات الجوفاء و السلوكات المصلحية الظرفية الماكرة..!
اقولها صراحة و قناعة ، مغرب اليوم ، ملكا و حكومة و شعبا ،اصبح بالحاح جامح و اباء واضح يرفض ان يكون مثل روما كل الطرق تؤدي اليها ، بل اختار ان يكون مثل مكة لا يقترب منها الا من استطاع اليها سبيلا ، و ذلك باصطفافه ضمن زمرة الذين اختاروا الوضوح في اعرابهم عن ايمانهم الراسخ بالمشروعية و هي الاعتراف الصريح بمغربية الصحراء لا لشئ سوى لانها مغربية فعلا ..
و الاكيد انه حين عبر جلالة الملك عن شكره لمختلف الدول التي اعربت عن موقفها الداعم لقضية الصحراء ولمقترح الحكم الذاتي، والتي فتحت قنصليات بالأقاليم الصحراوية، بجنوب المملكة المغربية، فان جلالته يمنحنا درسا في تاريخ علاقات بلدنا بغيره؛ لم نعد نقبل بانصاف الحلول و لابسياسة رجل هنا و رجل هناك ..فاما انك معترف بمغربية الصحراء او غير معترف، و التعامل المتبادل ينبني على هذه المعادلة التي تزكيها كل الدول لانها متشبتة بوحدتها الوطنية و الترابية..منطق المنزلة بين المنزلتين لا ينفع مع نشدان ابرام شراكات او تاسيس علاقات استراتيجية.
و اعتقد جازما ان تعامل المغرب الديبلوماسي ، اليوم ، مع اي دولة لن يحتاج لتحليل، حيث اصبحت هذه المنهجية منظومة مرجعية عادلة تيسر ، دون بحث مضن ،امر الحسم و تدفع بالقطع مع اي دولة مناوئة لمشروعية قضيتنا العادلة ..
اليوم ، لم يعد من المقبول و لا من المعقول ان نسمح لانفسنا بان تنتابنا الصدمة من اي دولة اتخذت موقفا معاديا لنا ، و لا بقلق من اي دولة تراجعت عن موقف اعترافها بمغربية الصحراء ، ببساطة لاننا اصبحنا في غنى عن طينتها..لا اقول هذا الكلام من باب الاعتزاز بالنفس المبالغ فيه او الغرور و لكن تبيانا لثقة امتنا العريقة في امجادها الحافلة و وفاء منها لارواح من سقوا ثرى الوطن بدم شهداء الوحدة الترابية للمملكة ، و لقدرتها الخلاقة على خلق اكتفاء ذاتي بافكار مغربية تحت يافطة ” صنع بالمغرب” ، و بسواعد مغربية و احساس صادق عميق ب” تمغربيت” التي فيها الكثير من هويتنا و خصوصية اصالة تاريخنا ، و لعل اختبار جائحة كورونا ، التي كسبت بلادنا رهانها باستباقية مثالية خير دليل على ذلك..نعم يحق لنا اليوم كمغاربة احرار شامخين و متواصلين ان نردد بقلوبنا قبل جوارحنا :” اذا خاننا من نثق فيه فلن نحزن ، بل ننتظره حتى يعطينا ظهره و نكتب عليه انه كان بامكاننا ان نخونك و لكن اخلاقنا الدميثة المتجذرة ، و تقاليدنا المتاصلة في مراعاتنا لحسن الجوار لا تسمح بذلك..هكذا نحن و هكذا سنبقى لان لنا اعرافا راسخة كمملكة شريفة و عريقة و اصيلة…قد يغير الزمان سلوك الناس، لكنه لا يغير معادنهم؛ فالاصيل يبقى اصيلا و لو نام على الحصير، و الحقير ، للاسف المرير ، يبقى حقيرا و لو التحف بالحرير.
من حق بلدنا الغالي، اليوم، كبلد سيادي ،كما يحق لغيره من الدول ، ان لا يتعامل مع كل الدول بالاسلوب نفسه ، و يضعها في مكانة و مرتبة واحدة ، فالحذاء و التاج كلاهما يلبس ، لكن احدهما تضعه على راسك و الاخر تدوسه بقدميك ..
ان عدم التدخل في شؤون الغير يترجم حسا و توجها راقيا ، يتسم بميول تضامني ، و من سماته الاحترام و التقدير المتبادل، في زمن التكتلات الاقتصادية الكبرى..منطق اليوم يقتضي من كل دولة ذات سيادة ان تحترم خيارات غيرها ، لانه كما يقول المثل الانجليزي : ” لا احد يعلم ان حذاءك يؤلمك غيرك” ، و كما جاء في المثل العربي السائر:” اهل مكة ادرى بشعابها” ، و يرد على لساننا المغربي الدارج:” ما حاس بالمزود غير لي مخبوط به ” ، و بالتالي لا بليق بل لا يجوز ان نحكم على الاخرين انطلاقا من واقع غير واقعهم و تجربتهم و حاجياتهم و نصدر مواقفنا من مواقعنا ،لان لكل واحد خصوصياته و متطلباته؛ فما هو صالح لزيد قد لا يفيد عمرو..!
على كل دولة ان تحترم قناعات غيرها ، و لا تتدخل في شؤونها ،مع التذكير ان حرية كل بلد تنتهي عند بداية حرية البلد الاخر.
و ختاما ، لابد من الاقرار الى ان ما سلف ينطبق على انظمة الدول و لا يعني الشعوب ، المفترض منها ان تتبادل الاحترام ، و حين تستدعي الظروف منها نقدا او ملاحظة ، عليها ان تكون بالتي هي احسن و باحترام و ادب ، لان الانظمة تتغير لكن الشعوب تبقى قارة.. انها جدلية الثابت و المتحول.. ان ما يجمع الشعوب اقوى من عناصر و عوامل ما يفرقها ، لذلك يؤكد عاهلنا الكريم دائما على عدم الاساءة او اثارة النعرات مع شعوب الدول الاخرى.. مهما اختلفت معنا انظمتها ، فشعوبها تستحق منا كل الاحترام و التقدير ..
علينا اليوم كمغاربة ان نعزز تقوية جبهتنا الداخلية ، لانها صمام الامان ، باضافة جرعات لتقوية دولة المؤسسات، و تجويد اداءها ، و نحرص على تشجيع الاستثمار لتوسيع وعاء تشغيل الشباب ، و العناية اكثر بقضايا النساء و الطفولة و ذوي الحاجيات الخاصة، و اظنها امور كلها يكفي فقط تسريع وتيرة تحقيقها لان الارضية جاهزة في سياق النموذج التنموي الجديد و الرؤية الاستشرافية للدولة الاجتماعية مدعومة بالسياسة الرائدة للحماية الاجتماعية التي تحظى برعاية ملكية فائقة .