الساحل بريس
على مدى أكثر من عقدين، أعاد الملك محمد السادس صياغة المقاربة المغربية للدفاع عن قضية الصحراء، عبر تفعيل دبلوماسية ملكية مباشرة، ترتكز على وضوح الرؤية، وحزم الموقف، وتوسيع دائرة الدعم الدولي، دون التفريط في السيادة أو الوقوع في ردود الفعل المتسرعة.
إنها دبلوماسية لا تتحرك برد الفعل، بل تقود بخطوات مدروسة، وتجمع بين الهدوء التكتيكي والحزم الاستراتيجي، وهو ما جعل المغرب يُحقق مكاسب غير مسبوقة في هذا الملف الذي يعتبره “قضية وجود لا مسألة حدود”.
تحول نوعي في منطق الاشتغال
لم يعد الدفاع عن الصحراء يقوم فقط على الخطاب السياسي أو الرهان على المسار الأممي، بل أصبح يعتمد على تكامل الجبهات: من الدبلوماسية الرسمية إلى الميدانية، من التنمية الداخلية إلى العلاقات الخارجية، وكل ذلك تحت إشراف مباشر من الملك محمد السادس، الذي شدد مرارًا في خطاباته على أن مغربية الصحراء هي النظارة التي يرى بها المغرب العالم، وهي المعيار الصريح لتقييم الصداقات والشراكات.
الاعتراف الأمريكي… نقطة تحوّل تاريخية
في ديسمبر 2020، جاء القرار الأمريكي التاريخي بالاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه، ليُجسد ثمرة سنوات من العمل الدبلوماسي الهادئ والدقيق، الذي قاده جلالة الملك. ولم يكن هذا الاعتراف وليد ظرف سياسي عابر، بل نتيجة لتراكم الثقة والتقارب بين الرباط وواشنطن، وتأكيد على أن الدبلوماسية الملكية تشتغل بمنطق النتائج لا الشعارات.
وقد شكّل هذا الموقف الأمريكي مرجعًا جديدًا غيّر ميزان القوى في الملف، وأعطى دفعة قوية للموقف المغربي على الصعيد الدولي.
قنصليات في العيون والداخلة: اعتراف ميداني بالسيادة
إحدى أبرز نتائج الدبلوماسية الملكية كانت فتح عشرات القنصليات العامة لدول إفريقية وعربية وأمريكية جنوبية في مدينتي العيون والداخلة. وهو ما يُعد اعترافًا صريحًا بالسيادة المغربية، وترسيخًا لحضور الرباط كمركز ثقل سياسي واقتصادي في الصحراء.
هذه القنصليات لم تأتِ من فراغ، بل من اقتناع الدول المعنية بعدالة الموقف المغربي، وبأن المبادرة المغربية للحكم الذاتي تظل الحل الواقعي والعملي الوحيد لإنهاء النزاع المفتعل.
المبادرة المغربية للحكم الذاتي: طرح مسؤول ومتقدم
منذ 2007، تبنّى المغرب، بتوجيهات ملكية سامية، مبادرة الحكم الذاتي كحل سياسي ناضج ومتقدم، يحفظ سيادة المغرب، ويمنح الصحراء تدبيرًا ذاتيًا موسعًا في إطار الدولة الواحدة. وقد لاقت هذه المبادرة دعمًا متزايدًا من المنتظم الدولي، باعتبارها مقترحًا جديًا وواقعيًا وذا مصداقية.
إفشال مناورات خصوم الوحدة الترابية
لم تكن الطريق سهلة، فقد واجه المغرب حملات ومناورات متعددة، خاصة داخل المنتظم الإفريقي أو في بعض المؤسسات الأوروبية. لكن الدبلوماسية الملكية، المدعومة بحزم شعبي وسياسي، أفشلت معظم هذه التحركات، وفرضت احترام الموقف المغربي كقضية عادلة ومدعومة تاريخيًا وقانونيًا وإنسانيًا.
من خطاب الدفاع إلى استراتيجية التمكين
لم يعد المغرب يكتفي بالدفاع عن قضيته، بل أصبح يشتغل على تمكين الصحراء تنمويًا واقتصاديًا وبشريًا. مشاريع عملاقة في الداخلة والعيون، بنية تحتية حديثة، استثمارات دولية، وموانئ كبرى، كلها تعكس إرادة ملكية في جعل الأقاليم الجنوبية قاطرة للتنمية وواجهة للمغرب الجديد.
الملك صانع التحول في قضية الصحراء
اليوم، وبعد أكثر من عشرين سنة من قيادة الملك محمد السادس، يمكن القول إن قضية الصحراء خرجت من مرحلة الجمود إلى دينامية الانتصارات المتتالية. دبلوماسية ملكية بوصلةُ تحركها واضحة: لا حل خارج السيادة المغربية، ولا شراكة بدون الاعتراف بمغربية الصحراء.
إنها دبلوماسية الثبات الذكي، التي جعلت من ملف الصحراء ليس فقط قضية عادلة، بل نموذجًا في كيفية كسب المعركة الدبلوماسية بالصبر، والإصرار، والإبداع الملكي.