تعيش المملكة المغربية اليوم مرحلة مفصلية في تاريخ تنميتها، مرحلة تحدد فيها ملامح المستقبل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للبلاد. في هذا السياق، أصدرت وزارة الداخلية بتاريخ 15 غشت 2025 دورية موجهة إلى جميع الولاة والعمال، لتفعيل التوجيهات الملكية السامية الواردة في خطاب العرش الأخير. هذه التوجيهات تتجاوز مجرد الإرشادات الإدارية التقليدية، لتشكل خارطة طريق استراتيجية تهدف إلى بناء جيل جديد من برامج التنمية الترابية المندمجة، حيث يصبح المواطن محور كل السياسات التنموية.
أبعاد الرؤية الملكية الجديدة
الخطاب الملكي لم يقتصر على الإشادة بالإنجازات السابقة في مجالات البنية التحتية والعدالة الاجتماعية، بل أشار إلى التفاوت في أثر التنمية بين الجهات المختلفة، مما يستدعي إعادة النظر في الاستراتيجيات المتبعة. لذلك، أصبح التركيز على:
1. التشغيل كمحرك أساسي للتنمية، عبر استثمار الطاقات المحلية وتشجيع المقاولة الصغيرة والمتوسطة، كوسيلة للحد من البطالة وتحفيز النشاط الاقتصادي في المناطق النائية.
2. تعزيز الخدمات الأساسية، مثل التعليم والصحة، باعتبارها الركيزة الأساسية لكرامة المواطن وضمان تنمية متوازنة.
3. تحقيق العدالة المجالية والاجتماعية من خلال برامج متكاملة تراعي الخصوصيات المحلية وتدعم التوازن بين الجهات.
المقاربة المجالية والجهوية المتقدمة
المغرب اليوم يتبنى نموذجاً متقدماً في إعداد التراب الوطني، حيث لم تعد التنمية مقتصرة على المشاريع المعزولة، بل أصبحت هندسة متكاملة. هذا النهج يشبه التجارب الدولية الناجحة، مثل نموذج ألمانيا في التنمية الجهوية أو كندا في التوازن بين المقاطعات، حيث يُوضع الإنسان في قلب كل السياسات، وتُصمم المشاريع لتكون أثرها المباشر ملموساً في الحياة اليومية للمواطن.
التحديات والفرص
مع قرب استحقاقات 2026، تبرز أمام الأحزاب السياسية والنخب الإدارية مسؤولية ضخ الطاقات الشابة والمؤهلة، القادرة على ترجمة الرؤية الملكية إلى برامج عملية وملموسة. إذ أن الاستمرار في نفس الوجوه التقليدية سيحد من فعالية السياسات ويضعف ثقة المواطن في المؤسسات.
على المستوى الاجتماعي، يشكل التركيز على الخدمات الأساسية والتشغيل فرصة للحد من التفاوتات الإقليمية، ورفع مستوى الكرامة الإنسانية. أما على المستوى الاقتصادي، فإن تشجيع المقاولة والابتكار يوفر أرضية صلبة لتحفيز النمو المحلي، وتعزيز الاقتصاد الأخضر والتكنولوجي، بما يتماشى مع التحولات العالمية.
دروس مستفادة من التجارب الدولية
في كوريا الجنوبية، لعبت البرامج الحكومية المندمجة دوراً حاسماً في تحويل المناطق الريفية إلى مراكز صناعية وتجارية، مع ضمان العدالة الاجتماعية.
في النرويج والسويد، أدت الاستثمارات الموجهة في البنية التحتية والخدمات الأساسية إلى تقليص الفوارق بين المدن والمناطق الريفية، مع تعزيز جودة الحياة.
المغرب اليوم يمكن أن يستفيد من هذه النماذج لتكييف التجربة الوطنية مع خصوصياته الثقافية والاجتماعية والجغرافية، مع ضمان استدامة النتائج.
الختام : نحو ورشة ملكية متكاملة
المغرب يقف على أعتاب مرحلة نوعية من التنمية الوطنية، تتطلب التزاماً جماعياً من جميع الأطراف: إدارات عمومية، أحزاب سياسية، مجتمع مدني، وفاعلين اقتصاديين. النجاح في هذه المرحلة لا يقاس بالكلمات، بل بالأفعال التي تتحول إلى واقع ملموس يحسن حياة المواطنين ويعزز العدالة المجالية والاجتماعية. الرؤية الملكية الجديدة تمثل دعوة حقيقية للجميع، للانخراط في ورشة ملكية ضخمة تهدف إلى تحويل التحديات إلى فرص، وبناء وطن متوازن ومستدام، حيث يكون المواطن محور كل السياسات، والتنمية أداة فعلية لتعزيز الثقة في الدولة والمستقبل.