دموع النخب السياسية… حين يتحول البكاء إلى خطاب

هيئة التحرير28 سبتمبر 2025آخر تحديث :
دموع النخب السياسية… حين يتحول البكاء إلى خطاب

في مشهدٍ لا يخلو من الرمزية العميقة، اجتمعت دموع محمد أوزين، الأمين العام للحركة الشعبية، بدموع عبد الإله بنكيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية. لم يكن ذلك البكاء حادثاً عرضياً ولا مجرّد انفعال عابر، بل علامة كاشفة عن تحوّلٍ عميق في العلاقة بين النخب السياسية والمجتمع. دموعٌ تُذرف في وقتٍ بات فيه المواطن يبحث عن خطاب العقل والمسؤولية، لا عن خطاب العاطفة والانفعال.

الدموع هنا ليست تعبيراً عن إنسانية القادة بقدر ما هي مرآة لضعف النخب السياسية وتآكل أدوارها التاريخية. فالدستور المغربي، كما في غيره من التجارب الديموقراطية الناشئة، لم يكتب ليمنح السياسي رفاهية البكاء على الأطلال، بل حمّله مسؤولية التأطير، والتمثيل، وصناعة الأمل. أن يبكي المواطن على أوضاعه المعيشية مفهوم؛ أما أن يبكي السياسي على فشل مشروعه أو على غياب الثقة فيه فذلك استقالة مقنّعة من الدور المنوط به.

من زاوية تحليلية أوسع، يعكس هذا المشهد فراغاً في المجال العام. لقد توسّعت الهوة بين المجتمع عموما والسياسي والناخب، حتى صار السياسي يعيش في جزيرة معزولة، يتفاعل فيها مع صورته أكثر مما يتفاعل مع جمهوره. ما نشهده اليوم هو أزمة تمثيل قبل أن تكون أزمة برامج أو إيديولوجيات. النخب التي صعدت على وعود الإصلاح والعدالة الاجتماعية أصبحت اليوم عاجزة عن إنتاج سردية جديدة أو عن تقديم نموذج قيادي يُحتذى به، فاستعاضت عن ذلك بانفعالات على المنابر.

يبدو أن ما تبقى من السياسة هو المسرح، وما تبقى من الخطاب هو البكاء. غير أنّ هذا التحوّل ليس قدراً محتوماً؛ بل هو دعوة صريحة لإعادة التفكير في معنى العمل السياسي، في بنية الأحزاب، وفي علاقتها بالمجتمع. المطلوب اليوم ليس المزيد من الدموع بل المزيد من الشجاعة النقدية، ليس المزيد من الاستعطاف بل المزيد من البرامج الملموسة، ليس المزيد من الشخصنة بل بناء مؤسسات تحمي السياسة من نزوات الأفراد.

إن المواطن، في نهاية المطاف، ليس بحاجة إلى سياسي يبكي معه، بل إلى سياسي يفهم أسباب بكائه ويُحوّلها إلى سياسات عمومية. السياسة الحقيقية تبدأ من الاعتراف بمسؤولية الفاعل السياسي، لا من التبرؤ منها. ولعل أخطر ما في المشهد أن تتحوّل هذه الانفعالات إلى أداة لشحن المواطنين نفسياً واجتماعياً، بدل أن تكون منطلقاً لإصلاح حقيقي.

حين يصبح السياسي هو من يبكي، فهذا يعني أن العلاقة بينه وبين المواطن قد انقلبت رأساً على عقب. فالأصل أن يرقب المواطن أداء السياسي ويحاسبه، لا أن يتحول السياسي إلى متفرج على معاناة الناس ثم يبكي معهم أو عليهم. إن دموع النخب ليست بديلاً عن المحاسبة، وليست تعويضاً عن غياب المشاريع الكبرى، ولا يمكن أن تُرمّم فقدان الثقة المتراكم منذ سنوات.

السياسة، في معناها النبيل، هي صناعة المستقبل وبناء الثقة وتحويل المطالب الشعبية إلى قرارات مؤسساتية. وإذا لم يستطع السياسي أداء هذه الوظائف، فليتنحَّ جانباً ويترك المجال لغيره. أما دموعه فمكانها البيت، لا المنصة.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة