لا يجادل إثنان ، أن من بين العوامل التي دفعت لتفكير في إعادة صياغة علاقات فرنسا بإفريقيا في بداية التسعينيات ما أثير من قضايا فساد ، تربط الشركات الفرنسية برؤساء الدول الإفريقية ، فقد تكشّفت فضيحة شركة (إلف Elf) الفرنسية للنفط ، والتي كانت تحوّل ما يعادل عشرة ملايين يورو سنوياً لحساب الرئيس (عمر بونجو) في الجابون ، كما دفعت مبالغ ضخمة لرؤساء (أنجولا، والكونغو برازافيل، والكاميرون) للحصول على امتيازات للتنقيب فيها، وفي مقابل الدعم السياسي لأنشطة الشركة ، والتي كانت مملوكة للدولة حتى 1994م ، تبرعت الشركة لحزب الرئيس السابق (جاك شيراك) ، ودفعت مبالغ لبعض أصدقاء الرئيس (فرانسوا ميتران) .
ولم تقتصر تجاوزات الشركة على رشوة المسؤولين الفرنسيين والأفارقة ، بل مارست دوراً في تأجيج الصراعات في بعض الدول بشكل مباشر ، كما حدث في (الكونغو برازافيل) ، أو غير مباشر ، كما حدث في (أنجولا) ، واستندت الشركة في هذا على علاقتها القوية بأجهزة المخابرات الفرنسية التي مولّت الشركة بعض عملياتها.
ورصدت إحدى الدراسات تدخّل الأجنحة المختلفة للشركة ورجالها الأقوياء لدعم الأطراف المختلفة للصراع في البلدين ، لضمان تأمين مصالحها في حال تغلّب أي من طرفي الصراع ، ففي الحرب الأهلية في (الكونغو برازافيل) في نهاية التسعينيات ، تدخّل أحد الأجنحة في الشركة لدعم (ساسو نجويسو) مادياً ولوجيستياً ، بينما تدخّل اَخر مسانداً ﻠ (باسكال ليسوبا) ، وتوسط لحصوله على السلاح ، وفي (أنجولا) دعمت بعض قيادات الشركة (جوناس سافيمبي) وحركته ، إلى أن بدا واضحاً أنّ فرصته في إنهاء الحرب لصالحه ضعيفة ، فنقل هؤلاء دعمهم لغريمه (دوس سانتوس) ، وساعدوه على توفير السلاح ، مقابل بيع إنتاج أنجولا المستقبلي من النفط .
وبالرغم من تزايد المنافسة الاقتصادية مع القوى الصاعدة ، وعلى رأسها الصين ، في العقد الأخير ، فإنّ فرنسا احتفظت بعلاقات متميزة مع مستعمراتها السابقة ، بل وسّعت نطاق علاقاتها الاقتصادية لتشمل منطقة الجنوب الإفريقي ، فقد أصبحت فرنسا ثالث أكبر مستورد للنفط الأنجولي ، وثاني أكبر مستثمر في البلاد ، كما ساهمت كبرى شركات المقاولات الفرنسية في مشروعات البناء التي دشنتها (جنوب إفريقيا) قبل استضافتها لكأس العالم لكرة القدم 2010م ، وما زالت فرنسا أحد أكبر المستثمرين في (ساحل العاج) ، فبحلول 2007م استحوذت قرابة 150 شركة فرنسية على 68% من الاستثمارات الأجنبية المباشرة في البلاد ، وما زالت فرنسا تعتمد على اليورانيوم الإفريقي ، وبخاصة يوارنيوم النيجر ، لتوليد الطاقة النووية التي توفّر 25% من احتياجاتها من الكهرباء.
وبصفة عامّة؛ فهناك مئات الشركات الفرنسية تستثمر في القارة الإفريقية ، في مجالات: البناء (أشهرها شركة لافارج Lafarge) ، والنفط (أشهرها شركة توتال Total) ، والغاز (أشهرها شركة إير ليكيدAir Liquide) ، والاتصالات (منها شركة ألكاتل Alcatel) ، والتعدين ، وبناء المحطات النووية (من أهمها شركة أريفا Areva) .
لكن في الوقت نفسه ، أصبح حفاظ فرنسا وشركاتها على مصالحها أكثر صعوبة مع تزايد منافسة القوى الدولية الأخرى ، وقد يفسّر ذلك تزايد اللجوء إلى الأداة العسكرية لحماية هذه المصالح ، فقد استغرقت شركة (أريفا) وقتاً طويلاً للتفاوض لتجديد تعاقداتها مع الحكومة النيجيرية ، وواجهت الصعوبة نفسها مؤخراً في تفاوضاتها مع حكومة النيجر.
وقد خسرت بعض الشركات الفرنسية المنافسة أمام شركات صينية وخليجية لبناء مواني وإدارتها في (السنغال، والكونغو برازافيل) ، وحاولت فرنسا خلال الأعوام القليلة الماضية تحويل المنافسة مع الشركات الصينية إلى شراكة ، فقد وقّعت الحكومة الأوغندية في سبتمبر 2011م – مثلاً – عقوداً للتنقيب عن النفط في (حوض بحيرة ألبرت) ، تشترك فيه شركة (توتال) الفرنسية مع شركتين صينية وأيرلندية.
ومن ناحية أخرى ، تُبدي فرنسا الدعم السياسي لمصالح شركاتها في مواجهة منافسة الشركات الأخرى ، ففي مارس 2009م قام (ساركوزي) بزيارة للكونغو الديمقراطية والنيجر برفقة الرئيس التنفيذي لشركة (أريفا) لتأمين حصول الشركة على عقود جديدة ، وبعد هذه الزيارة بشهرين قام رئيس الوزراء الفرنسي (فرانسوا فيلون) بزيارة لنيجيريا برفقة الرئيس التنفيذي لشركة (توتال) ، واقترح على الحكومة النيجيرية تقديم دعم عسكري لمواجهة المتمردين في دلتا النيجر ، وفي كذلك زيارة (هولاند) لنيجيريا ، والتي تركزت محادثاتها في التنسيق الأمني ، رافق الرئيس الفرنسي ما يزيد على عشرين ممثل لشركات فرنسية .
تدلّ هذه الأمثلة على صعوبة الفصل بين الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية في السياسة الفرنسية في إفريقيا ، والتي دخلت منعرجا خطيرا ، جعلها تحصد نتائج التدني والتقهقر في نفوذها داخل القارة الإفريقية .