بقلم : الصغير محمد
مقدمة:
في جهة الداخلة وادي الذهب، تبدو الثروات الطبيعية جاثمة على صمت الإدارة المحلية، بينما طموح الشباب الجامعي يتعثر بين جبال الإمكانيات الكامنة وأودية البيروقراطية المجهولة. هؤلاء الشباب، حاملون للشهادات، مفعمون بالشغف والرغبة في المساهمة، يجدون أنفسهم معلقين بين السراب والواقع، بين الإمكانيات الطائلة وفرص العمل المحدودة.
كما قال عالم الاجتماع والسياسي الألماني ماكس فيبر:
“القدرة على الحصول على الموارد الاقتصادية والسيطرة عليها ليست مجرد مسألة كفاءة فردية، بل تتعلق بالمكانة الاجتماعية، بالبنية المؤسساتية، وبشبكة العلاقات التي تحدد فرص الفرد في المجتمع.”
في الداخلة، هذه المقولة حقيقة محسوسة. المؤهلات موجودة، والطموح حاضر، لكن البنية الاجتماعية والإدارة المحلية لم تخلق بيئة عادلة تمكن أبناء الجهة من الوصول إلى الموارد وفرص العمل. البطالة ليست مجرد غياب للشغل، بل مرآة اختلالات متراكمة في النظام الإداري والاجتماعي.
قبل 2010: الإدارة المحلية كراعٍ محدود
قبل عام 2010، كانت الإدارة المحلية تتعامل مع البطالة عبر وسائل محدودة لكنها عملية، قادرة على امتصاص البطالة نسبياً. كانت بطاقة الإنعاش الوطني تمنح للخريج الصاعد من الجامعات، لتكون وسيلة تخفيف عن كاهله وطأة الانتظار، وتضمن له الانخراط التدريجي في البحث عن موطئ قدم في الوظيفة العمومية.
وكان التوظيف المباشر غالبًا لأبناء الجهة، مما يضمن العدالة المحلية ويمنح الشباب شعورًا بالاستقرار الاجتماعي، ويحولهم من عناصر هامشية في منظومة الاقتصاد إلى فاعلين منتجين في المجتمع.
هذا النموذج يعكس حكمة الإدارة المحلية: معرفة الواقع المحلي، القدرة على تشخيص اجتماعي دقيق، وتحقيق توازن بين الحاجة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. البطالة موجودة، لكنها لم تكن مزمنة، والشاب يجد طريقه إلى الاندماج في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، بعيدًا عن الانتظار العقيم والمناورات البيروقراطية.
بعد 2010: تحديات العدالة في التوظيف ومسار 2017
مع إيقاف بطاقات الإنعاش واعتماد المباراة الوطنية، تغيّر المشهد الجهوي جذريًا. أصبح أبناء الجهة في مواجهة مباشرة مع عشرات المرشحين القادمين من مناطق أخرى، وغالبًا ما يترك الموظفون الجدد وظائفهم بعد سنتين أو ثلاث، تاركين فراغا وظيفيًا لم يُسد.
في ظل هذا الواقع، سعى عدد من الشباب إلى المشاريع المموَّلة، محاولة للارتقاء بأنفسهم عبر إنتاج الثروة بأنفسهم، لكن التمويل كان محدودًا، المواكبة غائبة، والسوق المحلي ضيق وغير داعم، وغالبية المشاريع تواجه الجمود أو التوقف. ضعف التكوين في التدبير والإدارة أضاف تحديًا جديدًا، فجعل المشاريع الصغيرة تكاد تظل مجرد وهم الإنتاج.
وفي هذا السياق، برز عام 2017 كعلامة فارقة في مسار التشغيل بالجهة؛ فقد شهد قطاع التعليم عملية توظيف محلية شملت عشرات الشباب من أبناء الداخلة، في خطوة اعتُبرت حدثًا استثنائيًا وسط ركود السياسات التشغيلية. لم يكن هذا التحول وليد الصدفة، بل ثمرة قرار مؤسسي واعٍ من وزارة التعليم، عبر الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين التي اختارت أن تُصغي لحاجات الجهة وتستجيب لنداءاتها الاجتماعية.
لقد أعادت هذه الخطوة الاعتبار لمفهوم الجهوية الوظيفية، وأثبتت أن بإمكان القطاعات العمومية – حين تتواضع للواقع وتلامس الأرض – أن تُحدث اختراقًا حقيقيًا في جدار البطالة. ولعل ما قامت به الأكاديميات يجب أن يُحدو حذوه كل قطاع آخر؛ إذ لا معنى لسياسات التنمية ما لم تُبنَ على تمكين أبناء الجهة من مواردها، ولا قيمة لأي إصلاح إن لم يكن الإنسان المحلي أحد ركائزه الأساسية.
كان توظيف 2017 درسًا إداريًا واجتماعيًا وسياسيًا في الآن نفسه: درسٌ في إمكانية الفعل حين يمتلك القرار جرأته، ودرسٌ في أن البطالة ليست قدرًا محتومًا، بل انعكاسٌ لسياسات قابلة للتصويب. لقد أنقذ هذا المسار عشرات الشباب من ضباب العطالة الطويلة، وفتح أمامهم أبواب الاندماج الاجتماعي، وأعاد لهم ما سُلِب من اعتراف ودور وفاعلية.
مسارات الحل :
الحل يتطلب مسارًا طويلًا، يتجاوز الترقيع، ويعتمد على دمج الأدوات التقليدية مع استراتيجيات متقدمة:
1. إعادة منح بطاقات الإنعاش الوطني لحاملي الشهادات مؤقتًا لتخفيف البطالة وخلق استقرار اجتماعي.
2. جعل المباريات جهوية لأبناء الجهة لسد الخصاص المحلي قبل التوجه للمباراة الوطنية، وضمان توازن الفرص المجالية.
3. اللجوء للمباراة الوطنية فقط عند عدم توفر التخصص محليًا، لتجنب خلل وظيفي مستمر.
4. ربط التكوين الجامعي والمهني بحاجات سوق الشغل المحلي، وتهيئة تكامل إنتاجي بين الشباب والسوق المحلي.
5. إنشاء منظومة اقتصادية متكاملة تشمل التمويل، التكوين، المواكبة، وحماية المشاريع الصغيرة لضمان استدامة النجاح.
تجارب مثل توظيف 2017 تثبت أن الإدارة المحلية يمكن أن تكون فعّالة إذا أحسنت تنظيم الموارد البشرية وأعطت الأولوية لأبناء الجهة، ودمجت الشباب في الاقتصاد المحلي بطريقة منهجية.
خاتمة :
أزمة التشغيل في جهة الداخلة وادي الذهب ليست مجرد أرقام، بل اختبار لقدرة الإدارة المحلية على تحقيق العدالة المجالية وتوزيع الفرص بين السكان المحليين والوافدين. إعادة الحقوق لأبناء الجهة ليست رفاهية، بل ضرورة اجتماعية، اقتصادية وسياسية.
الرهان الحقيقي هو تحويل الجهة من مكان غني بالموارد وفقير بالفرص، إلى نموذج متكامل اجتماعيًا واقتصاديًا، وضمان أن يصبح الشباب المحلي فاعلًا ومؤثرًا، بدل أن يظل معلقًا بين الطموح والخيبة، بين الشهادة والبطالة، في صراع يومي مع واقع الإدارة المحلية والسياسات المركزية.












