بقلم : الصغير محمد
لا تُقاس الممارسة السياسية بعدد الأحزاب ولا بتكرار الاستحقاقات الانتخابية، بل تُقاس، في جوهرها، بطبيعة الولاء السياسي الذي يحكم سلوك الأفراد والجماعات: هل هو ولاء لفكرة، لبرنامج، لمرجعية إيديولوجية؟ أم هو ولاء لشخص يمتلك النفوذ والقدرة على الفعل داخل المجال الاجتماعي والاقتصادي؟
في هذا السؤال تحديدًا تتجلى إحدى أبرز مفارقات العمل السياسي بجهة الداخلة – وادي الذهب.
فالواقع المحلي يكشف أن المواطن لا يختار الحزب بقدر ما يختار الشخص. الحزب، في التمثّل السائد، لا يُنظر إليه باعتباره حاملًا لمشروع مجتمعي أو رؤية سياسية متكاملة، بل يُختزل في كونه وسيلة تنظيمية للوصول إلى موقع انتخابي. أما الفاعل الحقيقي، في وعي المواطن، فهو الشخص الذي يملك المبادرة، ويحضر في المجال الاجتماعي، ويؤثر في الاقتصاد المحلي، ويُتقن لغة الوساطة داخل الحقل السياسي.
هكذا تتحول السياسة من مجال للتنافس بين البرامج والرؤى، إلى مجال للتنافس بين شبكات التأثير الشخصي. فلا يُسأل المرشح عن مرجعية حزبه الفكرية، ولا عن موقعه داخل الخريطة الإيديولوجية، بل يُطرح سؤال واحد، بسيط في شكله، عميق في دلالته: ماذا قدّم هذا الشخص؟ وماذا يستطيع أن يقدّم؟
في هذا السياق، تكتسب أطروحة عالم السياسة الألماني ماكس فيبر راهنيتها حين يميّز بين السياسة باعتبارها فعلاً مؤسساتيًا عقلانيًا، وبين السياسة التي تُختزل في الزعامة الشخصية والكاريزما. فحين تطغى الكاريزما على المؤسسة، تصبح القاعدة تابعة للفرد، لا للفكرة، ويتحوّل الانتماء السياسي إلى علاقة ولاء لا علاقة اقتناع.
هذا النمط من التمثّل السياسي يفضي إلى نتيجة بنيوية خطيرة، تتمثل في إفراغ الأحزاب من معناها السياسي. فبدل أن تكون فضاءات للتأطير وصناعة الوعي، تتحول إلى أوعية انتخابية مرنة، تتغير بتغير موقع الشخص النافذ داخلها. وحين يقرر هذا الشخص الانتقال إلى حزب آخر، فإن جزءًا واسعًا من القاعدة التي التحقت بالحزب من خلاله، تنتقل معه دون مساءلة، وكأن الانتماء كان للشخص لا للمشروع.
وهو ما ينسجم مع ما نبّه إليه المفكر العربي برهان غليون حين اعتبر أن أزمة السياسة في المجتمعات العربية ليست في غياب التنظيمات، بل في تحوّل التنظيمات إلى امتدادات لشبكات النفوذ بدل كونها أدوات لبلورة الإرادة الجماعية. فحين تغيب الفكرة الجامعة، يصبح الحزب مجرد اسم، وتتحول السياسة إلى تدبير للأشخاص لا للشأن العام.
في هذا السياق، تغيب الأسئلة الكبرى:
هل يتماشى الحزب الجديد مع قناعاتنا؟
هل تختلف مرجعيته الإيديولوجية؟
وهل نغيّر الموقع السياسي لمجرد تغيّر الغلاف التنظيمي؟
هذه الأسئلة لا تُطرح، لأن الإيديولوجيا نفسها تصبح عنصرًا ثانويًا في الممارسة السياسية المحلية. وهو ما يذكّر بتحليل حنّة آرندت حين ربطت انحطاط الفعل السياسي بتراجع المجال العمومي، حيث يُستبدل النقاش العقلاني بالعلاقات الشخصية، ويُستبدل المشروع العام بالمصلحة الآنية.
ولا يمكن فهم هذا الواقع خارج سياقه العام. فحين تضعف آليات التأطير الاجتماعي والاقتصادي، وحين تغيب القنوات المنتظمة التي تُمكّن المواطن من إدماج مطالبه داخل أطر جماعية واضحة، تصبح الحاجة اليومية أقوى من الوعي السياسي، ويتحوّل الفاعل المحلي القوي إلى مرتكز تنظيمي غير معلن. وحين لا يشعر المواطن بأن الحزب قادر على تمثيل تطلعاته ضمن أفق جماعي واضح، فإنه يلجأ إلى الثقة الشخصية بدل الانتماء البرنامجي.
غير أن خطورة هذا المسار لا تكمن فقط في هيمنة الأشخاص، بل في ما يترتب عنها من تعطيل لتطور الحياة السياسية. فحين يغيب الحزب كفاعل مستقل، يغيب النقاش العمومي، وتبهت البرامج، وتتحول الانتخابات إلى إعادة إنتاج نفس الوجوه داخل تسميات تنظيمية مختلفة.
إن المشهد السياسي، في هذه الحالة، يظل أسير منطق الزعامة بدل منطق المؤسسة، ومنطق الولاء بدل منطق المحاسبة. وهو ما يُبقي السياسة في حالة ما قبل التحزب الفعلي، حيث يُدار الشأن العام بعلاقات شخصية أكثر مما يُدار بقواعد سياسية واضحة.
لذلك، فإن أي نقاش جاد حول إصلاح العمل السياسي بجهة الداخلة – وادي الذهب لا يمكن أن يتجاوز هذا السؤال الجوهري:
كيف ننتقل من سياسة الأشخاص إلى سياسة الأفكار؟
ومن الولاء الفردي إلى الانتماء الواعي؟
ومن الحزب كوسيلة انتخابية إلى الحزب كفاعل مجتمعي؟
في ختام هذا النقاش، يتبيّن أن الإشكال المطروح لا يتعلق بأشخاص بعينهم ولا بأحزاب بعينها، بل ببنية ممارسة سياسية لم تكتمل شروط نضجها بعد. فحين يُختزل الفعل السياسي في الوجوه، ويُقاس الوزن الانتخابي بمدى النفوذ لا بمدى الإقناع، تصبح السياسة مجالًا لإدارة التوازنات لا لبناء الخيارات. عندها يفقد الحزب وظيفته كفضاء للفكرة، ويتحوّل المواطن من فاعل واعٍ إلى تابع يبحث عن القرب لا عن المعنى.
إن تجاوز هذه الوضعية لا يمر عبر استبدال أسماء بأسماء، ولا عبر تغيير العناوين التنظيمية، بل عبر إعادة الاعتبار للفعل السياسي باعتباره ممارسة عقلانية جماعية، قوامها النقاش، والاختلاف، وبناء الرؤية. فالمجتمعات لا تتقدّم حين تُراكم الولاءات، بل حين تُراكم الوعي، ولا تستقر حين تتعدد الزعامات، بل حين تترسخ القناعات.
وعليه، فإن الرهان الحقيقي بجهة الداخلة – وادي الذهب يظل هو الانتقال من سياسة تُدار بمنطق الأشخاص إلى سياسة تُبنى بمنطق الأفكار، حيث يصبح الانتماء اختيارًا واعيًا لا امتدادًا شخصيًا، وتغدو المشاركة فعلًا سياسيًا لا علاقة نفعية. ففي النهاية، لا ما يخلّد في التاريخ هو الأسماء التي مرّت، بل الأفكار التي صنعت الاتجاه.
إن هذا الانتقال لا يُبنى بالشعارات، بل بإعادة الاعتبار للفكرة السياسية بوصفها أساس التنظيم.
فكما كتب أنطونيو غرامشي: «حين تغيب الهيمنة الفكرية، لا يبقى في السياسة سوى إدارة النفوذ».












