أثر المركزية واللامركزية والجهوية المتقدمة في التخطيط الحضري: رؤية متكاملة للتنمية المستدامة

هيئة التحرير22 سبتمبر 2024آخر تحديث : الأحد 22 سبتمبر 2024 - 11:38 مساءً
هيئة التحرير
مقالات الرأي
أثر المركزية واللامركزية والجهوية المتقدمة في التخطيط الحضري: رؤية متكاملة للتنمية المستدامة

بدر شاشا

عندما نتحدث عن المركزية واللامركزية في إطار التخطيط الحضري، نجد أن هذين المفهومين يعكسان رؤيتين مختلفتين لكيفية تنظيم وتوزيع السلطة والقرارات المتعلقة بالتنمية الحضرية والإدارة العامة. فالمركزية تتميز بتركيز السلطة والقرارات في يد سلطة واحدة أو هيئة مركزية، بينما اللامركزية تقوم على توزيع تلك السلطات بين مستويات مختلفة من الحكم، مثل الجهات المحلية والبلديات.

المركزية تعني أن جميع القرارات المتعلقة بالتخطيط الحضري، والتنمية الاقتصادية، والإدارة العامة تأتي من مركز واحد، سواء كان هذا المركز هو الحكومة المركزية أو هيئة مركزية مسؤولة عن تنظيم التخطيط في جميع أنحاء البلاد. وفي هذا الإطار، تبرز المركزية كأداة قوية للحفاظ على وحدة القرار والتنظيم، وتسهيل التحكم في تنفيذ السياسات والخطط. ولكن، من جانب آخر، يمكن أن تُعتبر المركزية عائقاً أمام الابتكار والتفاعل المباشر مع المشاكل المحلية، حيث يكون صناع القرار بعيدين عن الواقع اليومي للمواطنين.

على الجانب الآخر، نجد أن اللامركزية تمنح السلطات المحلية صلاحيات أوسع في اتخاذ القرارات وتنفيذ الخطط المتعلقة بمجالاتهم. هذه الرؤية تُعزز من المشاركة المحلية، وتسمح بتطبيق حلول تتناسب مع خصوصيات كل منطقة. فعلى سبيل المثال، يمكن للجهات المحلية في إطار اللامركزية أن تكون أكثر استجابة لمتطلبات المواطنين في مجالات مثل التخطيط العمراني، البنية التحتية، والنقل العام. وتتيح لهم هذه السلطة أن يتفاعلوا بسرعة أكبر مع التحديات البيئية والاجتماعية التي تواجهها مجتمعاتهم.

لكن التحول من المركزية إلى اللامركزية لا يتم بشكل فوري أو بسيط، بل يتطلب عملية انتقال تدريجية ومنظمة، وهو ما تجسده الجهوية المتقدمة. هذا المفهوم يمثل خطوة وسيطة بين المركزية الكاملة واللامركزية الشاملة، حيث تُمنح الجهات المحلية صلاحيات محددة في إطار تخطيطي وإداري يخضع للرقابة والتنسيق مع السلطات المركزية. في المغرب، يُعد مشروع الجهوية المتقدمة مثالاً جيداً على هذه الفلسفة. إنه يسعى إلى منح الجهات والبلديات صلاحيات أكبر، دون أن يفقد النظام ككل سيطرته المركزية على القضايا الكبرى مثل الأمن القومي والسياسات العامة.

sahel

في إطار التخطيط الحضري، تلعب المركزية واللامركزية والجهوية المتقدمة أدوارًا متباينة ولكن متكاملة. فالمركزية تسهل التخطيط الاستراتيجي على المستوى الوطني، حيث يمكن للحكومة وضع خطط شاملة للتنمية العمرانية تتوافق مع السياسات الاقتصادية والاجتماعية الوطنية. أما اللامركزية، فتتيح مجالاً للجهات المحلية لتكييف هذه الخطط مع احتياجاتها المحلية، مثل تحسين الطرق، تخطيط المناطق السكنية، أو إنشاء مراكز اجتماعية.

الجهوية المتقدمة تمثل النهج الوسطي الذي يحاول الاستفادة من إيجابيات النظامين، المركزي واللامركزي. فهي تسمح بتطبيق خطط تنموية تتناسب مع الخصوصيات الجهوية مع الاحتفاظ بإطار موحد على المستوى الوطني. في هذا النظام، يتمكن المسؤولون المحليون من التصرف بحرية أكبر فيما يخص مشاريعهم الخاصة، ولكنهم يعملون تحت مظلة التنسيق العام مع الحكومة المركزية.

مثال على ذلك هو المشاريع البيئية في المدن الكبرى مثل الدار البيضاء أو الرباط، حيث تتمتع الجهات المحلية بصلاحيات لإدارة برامج إعادة تدوير النفايات أو التخطيط للبنية التحتية البيئية، لكنها تعمل بالتنسيق مع الحكومة المركزية لضمان أن هذه المشاريع تتماشى مع الأهداف الوطنية مثل الحد من الانبعاثات الكربونية أو تعزيز الطاقة المتجددة.
التخطيط الحضري، بحد ذاته، هو عملية معقدة ومتعددة الأبعاد. ويهدف إلى تنظيم النمو العمراني وضمان استدامته، مع مراعاة الجوانب الاقتصادية، البيئية، والاجتماعية. المركزية في التخطيط الحضري قد تؤدي إلى تماسك أفضل بين المدن والمناطق، وضمان أن تكون جميع المشاريع متوافقة مع الأهداف الوطنية الكبرى مثل التوسع الحضري المستدام، ومحاربة الفوارق الاقتصادية بين المناطق. من جهة أخرى، قد يكون للامركزية دور إيجابي في تخفيف الضغط على المدن الكبرى عبر تمكين المدن الصغرى من تطوير برامج حضرية تناسب خصوصياتها المحلية.

في هذا السياق، يمكن القول إن الجهوية المتقدمة تسهم في تحسين التخطيط الحضري عبر إعطاء الجهات دورًا أكبر في صياغة وتنفيذ سياسات تتناسب مع خصائصها. الجهات المحلية، التي تعرف احتياجات سكانها أكثر من السلطات المركزية، قادرة على تطوير حلول سريعة وفعالة، بينما تبقى السلطات المركزية مسؤولة عن وضع الإطار العام والتوجهات الكبرى.

بفضل هذا التوازن، يصبح التخطيط الحضري أكثر مرونة واستجابة للتحديات المعاصرة مثل التغير المناخي، التحضر السريع، والتفاوت الاجتماعي. المناطق التي تعتمد على نموذج اللامركزية والجهوية المتقدمة تجد نفسها أكثر قدرة على تطوير خطط تعكس التنوع الطبيعي والاجتماعي لسكانها، بينما تستفيد في نفس الوقت من التوجيهات العامة التي تضعها السلطات المركزية لضمان التوازن الوطني في التنمية.

سواء كانت مركزية أم لامركزية، أو في إطار الجهوية المتقدمة، فإن أي نظام تخطيطي يجب أن يركز على تلبية احتياجات المواطنين وتحسين جودة حياتهم. التخطيط الحضري هو أداة حاسمة لضمان أن المدن والمناطق تكون مستدامة، متوازنة، وعادلة للجميع. ومن خلال تبني استراتيجيات تكاملية بين المركزية واللامركزية، يمكن بناء مجتمعات حضرية قادرة على التكيف مع التحديات المستقبلية.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة