بين زمن الرجال وزمن المصلحة… أي مستقبل للمجتمع الصحراوي؟

هيئة التحريرمنذ ساعة واحدةآخر تحديث :
بين زمن الرجال وزمن المصلحة… أي مستقبل للمجتمع الصحراوي؟

يقول الحكماء: “الأمم تُبنى على ما يبقى من قيمها، لا على ما يتبدل من مظاهرها.”
وعلى هذه الحقيقة رسّخ المجتمع الصحراوي ذاكرته عبر الزمن، كأنه ظلّ يرددها دون أن يكتبها. فهنا، في أرضٍ يعرف فيها الإنسان قسوته قبل سخائه، ظلّت القيم أثمن من الممتلكات، والرجال أثمن من الموارد.

جيل الآباء عاش تحت الاستعمار الإسباني والموريتاني؛ قلةٌ في السبل، وضيق في العيش، وامتحان يومي لصبرهم وصمودهم. ومع ذلك، لم يكن الشظف يومًا مبررًا للأنانية، ولا سببًا لإغلاق اليد التي تُعطي. العطاء لم يكن ميزة أخلاقية فحسب؛ كان طريقة لفهم الحياة. كان الجار أخًا، وكان الفقير مسؤولية مشتركة، وكانت كلمة “فظاحة” أبلغ من أي قانون مكتوب. رجال ذوو ملامح صلبة وقلوب رخية، يمشون في الأرض وهم على يقين من قول الله تعالى: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾.

وفي زمنهم، كانت السلطة تتجلى في شيوخ القبائل؛ رجالٌ يختصرون في حضورهم كل أشكال الحكم. يمارسون ما يسمح به العرف وما تفرضه الحكمة، فتصير كلمتهم قانونًا غير مكتوب، ويُستجاب لهم، لا رهبةً منهم ، بل احترامًا لتاريخ يقف خلفهم.

ثم جاء جيل الأبناء. جيلٌ تنفس هواء الحرية دون أن يحمل ثِقل تلك المعاناة التي صنعت رجال الأمس. ترسخ مفهوم الدولة والمؤسسات، وانتشر التعليم، وتغيرت معايير الوجاهة، لكن شيئًا ما تفلت من بين الأصابع. ظهر منطق جديد: “أنا أولًا… والبقية شأنهم.” انحرفت البوصلة قليلًا، ثم كثيرًا، حتى صار التنافس خصومة، والاختلاف قطيعة، والنجاح سببًا للريبة بدل أن يكون مدعاة للفخر.

اللافت أن هذا التحول وقع لا في زمن القحط، بل في زمن الوفرة. فالآباء عاشوا الضيق وكانوا كرماء، بينما الأبناء يعيشون الراحة ويزدادون انغلاقًا على ذواتهم. جيل بالأمس كان يتعفف عن أن يترك فقيرًا محتاجًا، وجيل اليوم أحيانًا يتردد قبل مد يد المساعدة حتى لأقرب الناس إليه.

وهنا يطرح السؤال نفسه بقوة: هل يمكن لمجتمع يُفضّل المصلحة الفردية على الروح الجماعية أن يبني وحدة؟ هل يمكن أن تنهض جماعةٌ إذا كان كل فرد يبني لنفسه حصنًا ويترك الخارج لمعركة الظنون؟

الحقيقة، مهما كانت قاسية، واضحة: لا نهوض بلا تضامن، ولا مجتمع بلا رابطة أقوى من النزعات الفردية. فالحداثة ليست نقيضًا للأخلاق، لكنها تحتاج إلى جذرٍ يثبتها. وقد أخذ كثير من الأبناء شكل العصر، لكنهم تركوا جوهره، وابتعدوا عن منظومة قيم لم تكن مجرد أعراف، بل نظامًا اجتماعيًا يمنع الضعيف من السقوط والغني من الاستعلاء.

نحن لا نحتاج إلى محو الحاضر ولا إلى استنساخ الماضي؛ نحتاج فقط إلى إعادة التوازن. أن نتذكر أن قيم الأجداد لم تكن ترفًا أخلاقيًا، بل قاعدة للبقاء. وأن الوفرة حين تفقد روح التضامن تفقد معناها، وأن المجتمع الصحراوي، بكل ما له وما عليه، لا يمكن أن يستمر إلا إذا عاد إلى نقطة قوته الأولى: الجماعة قبل الفرد.

وفي النهاية، يبقى السؤال معلقًا فوق الرمل والذاكرة:
هل نريد أن نكون أفرادًا متجاورين… أم مجتمعًا واحدًا؟

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة