“ماذا يريد المغرب؟ وماذا تبحث عنه إسبانيا؟ قراءة في اتفاق بحري يعيد ترتيب المصالح”

هيئة التحريرمنذ ساعتينآخر تحديث :
“ماذا يريد المغرب؟ وماذا تبحث عنه إسبانيا؟ قراءة في اتفاق بحري يعيد ترتيب المصالح”

بقلم : الصغير محمد

ليست مذكرة التفاهم التي وقّعها المغرب وإسبانيا في مجال الصيد البحري وتربية الأحياء المائية مجرّد اتفاق تقني حول تدبير الثروات البحرية، بل هي نصّ سياسي يتجاوز تفاصيله العملية ليكشف عن طبيعة التحول الجاري في العلاقات بين البلدين. فقد جاء توقيعها في سياق الاجتماع الرفيع المستوى الثالث عشر، وهو أعلى آلية مؤسساتية تجمع الرباط ومدريد، ما يمنح الاتفاق بعداً استراتيجياً لا يقلّ أهمية عن مضمونه.

فالاجتماع الرفيع المستوى ليس مجرد لقاء دوري، بل مساحة لإعادة قراءة العلاقة بين البلدين في ضوء التحولات الإقليمية والدولية، حيث يتقدم البحر اليوم ليكون أحد أهم مجالات إعادة هندسة هذه العلاقة. وفي هذا السياق، تتحول مذكرة التعاون إلى مرآة تعكس إرادة سياسية صامتة ولكن واضحة: التوجه نحو شراكة قائمة على تداخل المصالح وتكامل الأدوار، لا على منطق ردود الفعل.

وتبرز المذكرة إدراكاً مشتركاً بأن البحر لم يعد مجرد مورد اقتصادي، بل أصبح فضاءً استراتيجياً تتقاطع فيه قضايا الأمن الغذائي، والتغير المناخي، ومحاربة الأنشطة غير القانونية، وتطوير المعرفة العلمية. ولهذا جاءت الإشارة إلى محاربة الصيد غير القانوني وتبادل البيانات واعتماد الرقمنة، ليس كخطوات تقنية، بل كجزء من بناء الثقة بين جهازين إداريين يحتاج كل منهما إلى الآخر لضبط فضاء بحري متشابك جغرافياً وسياسياً.

أما التعاون في البحث العلمي وتبادل الكفاءات المهنية والتقنية، فيعكس فهماً متقدماً لفكرة السيادة المشتركة في إنتاج المعرفة. هنا، لا يتعلق الأمر بجودة التكوين فحسب، بل بامتلاك أدوات قراءة البحر كفضاء لصناعة القرار، لا كمجرد مجال للإنتاج. وفي هذا المستوى، يتقاطع العلم مع السياسة في تأمين مستقبل مشترك أكثر استقراراً.

وإحداث لجنة مشتركة لتتبع تنفيذ الاتفاق يعكس إدراك الطرفين بأن الاتفاقيات لا تتأسس بقيمتها الرمزية فقط، بل بقدرتها على أن تتحول إلى برامج عملية. فالمتابعة المشتركة ليست جزءاً من البروتوكول، بل آلية لضمان أن المصالح المتفق حولها تتحول إلى واقع ملموس.

يتضح، من خلال مضمون هذه الشراكة، أن المغرب لا يكتفي بتطوير قطاع الصيد البحري وتربية الأحياء المائية، بل يسعى إلى تثبيت موقعه كفاعل إقليمي محوري في الاقتصاد الأزرق، مستنداً إلى حكامة متطورة للموارد البحرية. في المقابل، تدرك إسبانيا أن استقرار محيطها الجنوبي، خصوصاً في ما يتعلق بالفضاءين المتوسطي والأطلسي، يمر عبر تعاون وثيق مع الرباط يقوم على المصالح المشتركة لا القضايا الخلافية.

بهذا المعنى، يصبح الاتفاق البحري أكثر من مذكرة تفاهم؛ إنه خطوة سياسية ضمن مسار إعادة ترتيب المصالح بين بلدين يكتشفان، مرة أخرى، أن البحر ليس فقط حدوداً جغرافية، بل مساحة لبناء الثقة وصياغة مستقبل مشترك.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة