أدوات التعامل مع النص الشرعي

هيئة التحرير10 أغسطس 2020آخر تحديث :
أدوات التعامل مع النص الشرعي

للنص
الشرعي مكانة مهمة في الحضارة الإسلامية، وقيمة كبيرة على مستوى الدراسات
الشرعية، ذلك أنه مقوّمٌ أساسٌ من مقوماتها، بل ومسوِّغُ وجودِها والضامن
لاستمراريتها وبقائها، ومنه تستمدّ قداستها وتستقي شرعيتها، ومن خلاله
تكتسي طابع الخصوصية وترتقي فوق كل العلوم الإنسانية.

 

نتيجة
لهذه المركزية التي يحتلّها النص الشرعي في الدراسات الإسلامية، ونظرا
لمصدره الربّاني، فقد أولاه العلماء عناية خاصة، تمثلّت في وضع مجموعة من
الضوابط وإحاطته بمجموعة من القواعد والشروط التي تضبط التعامل معه أو
الاستنباط منه، فأسّسوا عددا من الأصول التي من شأنها أن تعصم المتعامل مع
النص الشرعي من الخطأ والزلل وليّ أعناق النصوص، وتحول دون العبثية
والفوضى، وتضبط الفهم الصحيح عن الله تعالى، وتحارب التأويل الفاسد والمعنى
المختلق والدلالة المصطنعة، تجنّبا لكل ما من شأنه أن يثير نوعا من
الارتجالية والفهم الخاطئ للنصوص.

 

هذه
الشروط وإن شئت قلت هذه الأدوات لم تكن متوافرة (حسب رأي فضيلة الدكتور
سيدي حسن قايدة) في شخص عبد الرحمن بن مهدي الذي كتب إلى الإمام الشافعي
يستفسره عن بعض القضايا المتعلقة بالقرآن الكريم، معنونا رسالته بـ : كيف
البيان؟ 1

 

فكتب
الإمام محمد بن إدريس الشافعي رسالته المشهورة في الأصول، والتي ضمّنها
كشكولا من الضوابط التي يحتاجها المجتهد لبيان الأحكام الشرعية، وتحدّث
فيها عن بعض المسائل الأصولية وشروط صحة الحديث وعدالة الرواة وقواعد
الترجيح وغيرها من القضايا المتعلقة بالبيان.

 

يقول
الإمام الفخر الرازي في كتابه مناقب الشافعي : { .. كانوا قبل الإمام
الشافعي يتكلمون في مسائل من أصول الفقه ويستدلون ويعترضون، ولكن ما كان
لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة، وفي كيفية معارضتها
وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه، ووضع للخلق قانونا كليا يرجع
إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع، فثبت أن نسبة الشافعي إلى علم الشرع كنسبة
أرسطو إلى علم العقل ..} 2

 

بعد هذه
المقدمة النظرية، قد يتبادر إلى ذهن القارئ الفاحص لما يقرأ، إشكال مفاده :
ما هي الأدوات أو القواعد أو الأصول التي يحتاجها المتعامل مع النص الشرعي
؟ وكيف يمكن معرفة هذه الضوابط التي تؤطّر الفهم الصحيح وتكرّس الدلالة
المقصودة من هذا النص أو ذلك؟

 

فأول ما
ينبغي تواجده في شخصية المتعامل مع النص الشرعي هو العلم باللغة العربية
ومعهود العرب، ذلك أن القرآن عربي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عربي حتى
النخاع، ومن ثمّ لا يمكن الفهم عن الله تعالى دون إدراك دلالة اللغة
العربية، وأقول الدلالة هنا إمعانا في بيان المقصود منها، قد يكون الكلام
من الناحية النحوية والبلاغية صحيح وكذا من الناحية التركيبية، بيد أنه من
الناحية الدلالية والذوقية تعبير غير صحيح، كأن تصف شيئا جميلا بالزرقة (
اللون الأزرق)، ذلك أن العرب تتشاءم منه ولا تستعمله إلا للتخويف والتهويل،
كما قال الشاعر :

 

…………………………… ومسنونة زرق كأنياب أغوال

 

وهذا ما أكده الشيخ الأصولي فضيلة الدكتور سيدي فريد الأنصاري رحمه الله في غير ما محاضرة.

 

يقول
الإمام الشاطبي رحمه الله : { إن هذه الشريعة المباركة عربية (…) فالقرآن
نزل بلسان العرب على الجملة (…) فطلب فهمه إنما يكون من هذه الطريق
خاصة، فمن أراد تفهمه فمن جهة لسان العرب يفهم، ولا سبيل إليه من غير هذه
الجهة } 3

 

فاللغة
العربية إذن شرط أساس وركن أصيل في عملية دراسة النص الشرعي استنباطا أو
استدلالا أو تفسيرا، وإلا كانت ضربا من اللامعقول، قال تعالى : { بلسان
عربي مبين }. 4

 

ومما هو
ضروري في التعامل مع النص الشرعي بشقيه : قرآنا وسنة، إدراك السياق العام
الذي يكتنف النص، إذ هو الكفيل بتحديد الدلالة المقصودة والغرض الأساس
والمعنى العام، كما يساعد على الفهم الصحيح لمقصود الشارع واستنباط الحكم
الشرعي منه.

 

وبتر النص
عن سياقه وظروف وأسباب نزوله أو وروده، ينذر بأزمة في الفكر الشرعي، ويحدث
فوضى بين النصوص، ويؤدي إلى خلل منهجي على مستوى استنباط الأحكام أو
الاستدلال أو تحقيق المناط، أي تنزيل الحكم الشرعي على الواقع.

 

ولنضرب
لذلك مثالا حتى يتضح الأمر وينجلي المعنى بإذن الله، فقد يستشهد بعض الناس
على خطورة كيد النساء بقوله تعالى : { إن كيدكن عظيم } 5، فيظهر أن
الاستدلال في محله، وأن المعنى صحيح، لكن الواقع غير ذلك، لأن الأية مبتورة
السياق، فنحن إذا رجعنا إلى سياق الآية العام وجدنا أن قوله تعالى : { إن
كيدكن عظيم } إنما هو قول عزيز مصر في شأن غدر زوجته له، وقد حكاه الله
تعالى عنه، فهي جملة قالها عزيز مصر، والله تعالى حكى ما قاله العزيز، ومثل
هذا في القرآن كثير، ولكن كفى من البحار لؤلؤة.

 

ومن
الأدوات المهمة في التعامل مع النص الشرعي الإلمام بعلوم التوثيق، التي
تسعى لتوثيق النص وحفظه مما قد يشوبه من ضعف وسقم وشذوذ … وعلوم التوثيق
تتمثل أساسا في صنفين اثنين من العلوم :

 

1 علوم
القرآن : هو عبارة عن مباحث تتعلق بالقرآن من حيث نزوله وترتيبه وجمعه
وإعجازه وناسخه ومنسوخه، وفائدته التسلح بالمعارف القيمة، استعدادا لحسن
الدفاع عن حمى الكتاب العزيز. 6

 

2 علوم الحديث : هو علم بأصول وقواعد يعرف بها أحوال السند والمتن من حيث القبول والرد، وذلك لمعرفة الصحيح من الضعيف من الأحاديث. 7

 

فبعلوم
التوثيق يكون الدارس على دراية بالنص الذي يصلح للاستشهاد والاستنباط
والاستدلال من غير الذي لا يصلح، ومن ثَمّ كان لا مناص للمشتغل بالنص
الشرعي من الإلمام بهذا الركن الأصيل من العلوم الشرعية ركن التوثيق، وإلا
قد ينفق العمر كله في دراسة حديث مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم
دون إدراك ذلك، كالذي يبسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه.

 

ويشترط في
المشتغل على النص الشرعي أن تكون له اليد الطولى في علم أصول الفقه، الذي
هو عبارة عن قواعد يتوصل بها المجتهد إلى استنباط الأحكام الشرعية من
أدلتها التفصيلية. 8

 

فكما أن
البحّار لا يظفر بخيرات البحر إلا بأدوات معينة، فكذلك المجتهد الذي ينوي
خوض بحر القرآن والسنة، لا بد له من أدوات وضوابط ومناهج وآليات ينال بها
ما يزخر به هذا البحر الديني من جواهر الأحكام ولآلئ المعرفة والبيان.

 

ولا يكفي
من أصول الفقه الجانب النظري، بل لا بد من الجانب التطبيقي وشيئ من التدريب
وطول الممارسة، حتى تحصل ملكة الاستنباط وحسن التعامل مع النص الشرعي.

 

ولعمري إن
هذا مشاهد ومجرّب، فقد مكثنا في المدارس العتيقة نسرد أنواعا من الكتب
الأصولية كإرشاد السالك ومتن الورقات وجمع الجوامع ومفتاح الوصول ونيل
السول وغيرها من المصنفات الأصولية، يسرد الطالب ثم يشرح الأستاذ ما شاء
الله أن يشرح، دون أدنى شعور بممارسة تطبيقية تتضح معها الصورة ويحصل
الإفهام، حتى إذا ختمنا الكتاب تلو الكتاب، ثم سئل أحدنا عن ماهية أصول
الفقه بقي واجما كأن لم يدرسه قط، بله أن يطبق تلك المباحث على ما يستجد من
النوازل، فلما تقدم بنا العمر أدركنا أن الخلل كان في المنهج، وأننا كنا
ندرس تاريخ أصول الفقه لا أصول الفقه.

 

ولولا أن
أخرج عن المقصود لزدت في تفصيل هذه القضية أكثر، لكن نرجئها لحين، ونعود
لما نحن بصدده من بيان الأدوات التي يحتاجها الدارس للنص الشرعي، فأصول
الفقه مهم جدا في عملية التعامل مع النص، إذ هو الآلة التي لا يمكن
الاستغناء عنها في دراسة النص عموما، وإذا أضفنا إلى ذكرناه آنفا سرعة
البديهة والذكاء وطول الممارسة والملكة الفقهية، كانت الأدوات مكتملة لمن
أراد خوض عباب هذا البحر العلمي، الذي تستحيل إزاءه هذه الأدوات مركبا يمخر
أمواج العلوم الشرعية، فتهتز من تحته وتميل ثم تتكسر على جانبيه لتستقيم
هادئة مداعبة دفته.

 

 

بناء على
ما سبق، يتضح جليا أن النص الشرعي ليس كغيره من النصوص الأدبية أو الفلسفية
أو المسرحية أو الاجتماعية التي يمكن تحليلها بطريقة أدبية ذوقية أو
انطلاقا من خلفيات عقلية أو في ضوء نظريات معينة لهذا أو ذلك، وإنما هو نص
مقدّس ذو مصدر رباني، يحتاج إلى تعبئة مجموعة من الموارد واستحضار العديد
من الآليات والأدوات التي قد يفنى العمر دون تحصيلها والإلمام بها، في سبيل
الفهم الصحيح واستجلاء الدلالة المقصودة، ومن هنا فلا مكان لأي صيحة تروم
زعزعة مكانة العلماء وبالخصوص علماء الشريعة، ولا يمكننا أن نقبل أي قراءة
أو تفسير أو استنباط أو تعامل مع النص المقدس من طرف أصحاب البضاعة المزجاة
من العلوم المتعلقة بهذا المضمار، والصلاة والسلام على النبي المختار.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة