لا يخفى على أحد أن الخطاب الحزبي في تعريفه المعاصر عبارة عن تركيب من الجمل موجه عن قصد إلى المتلقي بقصد التأثير فيه وإقناعه بالمضمون عن طريق الشرح والتحليل والإثارة.
ويتضمن هذا المضمون أفكارا سياسية، أو يكون موضوع هذا الخطاب سياسيا إجتماعيا أو إقتصاديا ويهدف صاحب الخطاب من خطابه إلى تغيير النفوس والعقول والأفكار والواقع مما يجعله في حالة لها صفات وسمات وهيئة معينة.
ففي ظل ما تشهده الساحة الإقتصادية المضطربة ، من حمى الغلاء الحاد و التي لا تلتقي عند ثوابت و لا تتعارض عند مفاصل شكوك ، فلا ريب أن الخطاب الحزبي سيظل لدى أغلب المواطنين ، مفتقدا لقواعد قيامه و قيم مرتكزاته و دعائمه وعاجزا عن تحديد زمانه و الإشارة إلى مكانه و التعريف بمكانته و إبراز العلاقة و السياق لديه ، و إنها هي القيم مجتمعة التي يعتمد عليها الخطاب و يقوم فيها و بها على التفاعل الذي تتبدى من خلاله الحدود الفاصلة والروابط الجامعة، تفصل الأنا عن الآخر وتجمعها ومن يحالفها أو يشبهها أو ينتمي إليها، وتتبدى من خلاله كذلك المكانة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأدوار التي يلعبها في التفاعل أو حوله .
و لا بد للخطاب الحزبي الرفيع ، إن ارتسمت معالمه و تحددت و صحت ماهيته ، أن يتسم بالحكمة و فصل الخطاب و هما أحد العوامل الهامّة ، كما أنه لا بد لمن يخاطب بالحديث الحزبي من صفات وانطباعات معينة قد لا تجب بالضرورة في أي حديث آخر ، لأنه للناشط الحزبي أهدافا يرجو تحقيقها من خلال خطابه علما بأنه قد يحرك ساكنا و يسكن متحركا ، وقد يقيم الدنيا وقد يقعدها أيضا ، و فيما لا بد أن يشتمل في الخطاب الحزبي التفاعل على نوع من التفاوض والتداول ، ومراجعة فرضياته السياسية الكبرى المهمة ، ومحاولة فرض ما يفترض أو يسلِّم به على الآخرين، و أن يشتمل أيضا على توقُّع ما يفكر فيه الآخرون والتنبؤ بما يدبِّر المنافسون وما يؤمن به “الأعداء” ومن ثمَّ تفنيده أو إضعافه أو تشويهه وتقبيحه ، و في هذا فلا شك في أنه يتحقق قدرٌ كبير من التفاعل في الخطاب الحزبي بفضل قدرة الّلغة على الدلالة بمستويات مختلفة ، وقدرتها على التعبير عن الواقع، ثم التعبير عن التعبير عن الواقع.
و بالطبع لا شك في وجوب أن يرتكز الخطاب الحزبي الناضج إجمالاً على تصنيفات ثنائية متعارضة ، وربما متصارعة ، بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين العدل والظلم ، بين الشرعية وعدم الشرعية، بين الوطنية والخيانة، بين الحرية والقمع.
فهل أدرك نشطاء الأحزاب السياسية يوما، على قصر أعمار تجاربهم و عدم خلوها من التشبث بعواطف و مفاهيم الماضي الحاضر في واقع التناقض ، أن لمفهوم الأدوار أهمية خاصة في الخطاب الحزبي ، أي ما يؤديه المشاركون فيه من وظائف وأدوار اجتماعية و سياسية و إقتصادية ، سواء كانت هذه الأدوار حقيقة أو مُفترضَة أو مرجوة أو مسلوبة من الآخرين، والعلاقات التي تربط بين من يؤدون هذه الوظائف ويلعبون هذه الأدوار من أبناء الشعب !! .. و هل أدركوا كذلك يوما ما للوعي بالمكان والمكانة من أهمية خاصة في الخطاب الحزبي كما أسلفنا ، ومن ذلك ما يتعلق بمفهوم “تحقيق الوعود” و”الإلتزام بالأهداف” و”وتجويد العمل” وما يرتبط بكل ذلك من استعارات وتصورات وحقوق وواجبات.. و هل تحلت أحزاب البلد السياسية بمثل هذه الثوابت و المنطلقات و وعت أن الخطاب الحزبي لديها، إن كان نضج، أن يشتمل على قدر وافر من التفكير الاستعاري، على معنى أن للاستعارة وظيفة مهمة في صياغة التصورات وتجسيد المفاهيم والأطروحات السياسية و أنه من خلال الوعي بالمكان والتصورات الاستعارية التي ترتبط به، تتشكل و تنتظم الأفراد و الجماعات ، ويتشكَّل كذلك وعيها بمن ينتمي إليها ومن لا ينتمي ، وتتبلور الهويّة السياسية والجغرافية والاقتصادية لتلك التجمعات، وتتطور مفاهيم “نحن” و”هم”.
و من هنا و حتى يثبت العكس لهذا الجيل الوسيط و للذي من بعده فإن الخطاب الحزبي لا يتمثل و يأخذ مطلقا صفته كيانا نافذا في عمليات ذر الرماد في العيون التي يقوم بها الكثير ممن تغص بهم الساحة و يحجبون في تكرار مقيت كل آفاق الرؤية، ممن يوصفون:
جزافا بالسياسيين المحنكين و الهادين إلى نهجها المستقيم، افتراء بحملة فكر بناء، واعي و مدرك لأبعاد المسائل الوطنية الملحة، عبثا و استهتارا بالمناضلين على قوالب ماض هو متكأهم و وقودهم حين الضعف و اليأس و البأس، من خلال أسطوانات مشروخة و معبأة بمواقف لا تتغير و أشخاص لا يتبدلون فتتحجر و تصدأ ، و لا يطالها النقد البناء ، لا الذاتي منه و لا الخارجي ، فتتهرأ و تضجر ، أسطوانات يعينها بعضُ المثقفين ضعاف و مصابين بنفس علات غياب النضج و الحياد ، مثقفون لا يحملون جينات التحول الإيجابي و لا يدفعون على تغيير ملح لمحتوى هذه الخطابات “المُقزمة” بل و إنهم على العكس من ذلك يكرسون خور هذه الخطابات إمعانا في قصم ظهر المسار السياسي المتعثر و المفتقد عموما للمحتوى الرفيع و الحضور الكاريزمي للامعين من النخب و القادة الفاتحين لأمصار السياسة البناءة ، إلا من رحم ربك…